top of page

إن أي قراءة في المشتركات الإنسانية الكبرى ستكون عرضة في دراستها إلى مستويات عدة من الأحكام، والتي ستكون النسبية فيها حاضرة بشكل كبير، فأي قياس لشكل من أشكالها، يستوجب قياسها بمثيل لها، يلتقي بها، أو يخالفها فـي الظروف، وهذا الأمر سينطبق بشكل من الأشكال على ما تعارف الناس على تسميته بــ"الحب". وقبل شروعنا في الحديث عن الحب سيكون من المهم أن نحاول ضبط الأمور. بدءً بمحاولة تعريفه، وتعريف الشيء كما نعلم لا يتأتأ لنا بشكل واضح إلا إذا ما استطعنا كشف هذا الشيء والقبض عليه.. سنحاول أن نستعرض مجموعة من التعاريف لفكرة الحب من ثقافات مختلفة، وتواريخ متباعدة؛ لنرى سويةً مستويات إدراك الإنسان لهذا المفهوم الكبير. ففي الحديث عن صعوبة تعريف الحب أو المحبة تحدث عنها الكثير في التراث الإنساني ككل ولعلنا نستحضر(سمنون المحبّ) ذلك العاشق البغداديّ المتوفّى تقريباً سنة 298ه ـ.. إذ قال: "لا يُعبّر عن شيء إلا بما هو أرقّ منه، ولا شيء أرقّ من المحبّة، فما يعّبر عنها ! " وهذا يؤكد أن إدراك استحالة القبض على فكرة الحب كان اعتقادًا قديما وراسخًا

تاريخية الحب إن المتأمل في التاريخ البشري وتطور أخلاقياته سيلمح أن الفعل البشري كان رهن محركين أساسين بحسب "سيغموند فرويد" وهما غريزة "الإيروس" أو الحب، وغريزة "الأنانكي" أو الهدم فالأولى هي التي تحض على البناء وتحفز الخلايا على الارتباط والاكتمال والاتساق فيما بينها، وبالتالي هي التي توجه الأضداد باتجاه بعضها البعض، ونستطيع أيضا أن نصفها بأنها غريزة التجمع والاعمار وهي علة تكوين المجتمعات والتجمعات البشرية. أما الثانية فهي مضادة لغريزة "الإيروس" وهي تتمثل في اندفاع السيال الفكري نحو الموت وهي تحض على الانفصال والتوحد والانطواء وبالتالي تشكل دائما نقطة تحلل في المجتمعات، وهي أيضا تعبر عن شهوة الصراع، والحرب، والنزاع. ومن المهم أن نشير إلى أن الوحشية التي عُرف بها الانسان شكلت بحسب علماء الأنثروبولوجيا 99% من تاريخ البشر وتسمى مرحلة "ما قبل التاريخ" و 1% لكل هذه الثقافات التي نشأتْ، ثم الحضارات. وأقول ثقافات لأننا لا يمكن أن نطلق على مجرد تجمع بشري ما لفظة حضارة، حتى وإن ظهرت بعض الممارسات لذلك.. مما يعني أن كل تاريخ الأخلاقيات وكل ما قيل عن قيمة النوازع الباطنية للإنسان كالضمير والعدالة والإيثار هي لا تمثل إلا هذا ال1% من تاريخ الإنسان بما في ذلك فكرة الحب، والتي لا يمكن لها أن تخرج عن هذه ال1% و لكن الغريب في الأمر أن بعض هذه القيم لم تتقدم تلك الخطوات الهائلة التي كان يجب أن تتقدمها استناداً لكل هذه الفترة الطويلة ولعل هذا ما حدث مثلا للحب و الحقيقة أن موضوع الحب شغل الحكماء والمعلمين القدامى منذ عصور ما قبل اختراع الكتابة نقرأ مثلا في كتاب مهم في أنثربولوجيا الحب والجنس.. مثل كتاب يدعى "الحب الأسود" لـ"بوريس باراتي "يُرجع فيه انشغال المفكرين بتدوين عادات وتقاليد الحب والجنس، لما قبل الألف الرابعة قبل الميلاد بل ويقول في مقدمة كتابة "أن الموضوع أقدم مما قد يتخيل البعض فعاطفة الحب هي التي أدت لوجود القبائل وليست الطواطم المعبودة ،كما قد

يتخيل البعض وبالتالي هي التي خلقت النواة الأولى للمجتمعات القديمة وهي القبيلة" وتأكيدًا على كلامه

يمكن أن نقرأ شواهد ونصوص لما كُتبَ في العصر الحجري الحديث" النيوليثي" 9000-4500 ق.م ونجد فيها أفكارا وتصورات عن العشق والغيرة واشتهاء الجسد تماما وكأنها كُتبتْ الآن، ولعل هناك ميثولوجيا شهيرة ومهمة تنتمي للفترة ما بعد "النيوليث" وهي قصة "إيزيس" و"أوزوريس" وهي لا شك أنها قصة حب جميلة، وتثري المخيال الجمعي، وتجمع أفكار مهمة عن أبدية الحب ، وقيم الإخلاص، والوفاء، وأن الحب مهما واجهته من مصاعب وعثرات يمكن له أن ينبعث من جديد كما يحدث لطائر الفينيق. ويمكن أن نلخص القصة بالتالي: أن أوزريس كان يحكم مصر وكانت زوجته إيزيس وكانت بينهما علاقة حب قوية جدا وحدث أن تم اغتيال "أوزريس" من جانب شقيقه "ست" ليتمكن من العرش، وأخفى جثة "أوزريس" عن إيزيس ولم تمل إيزيس من البحث عن جثة زوجها التي وجدتها في مدينة "جبيل" اللبنانية وأفلح "ست" بعد ذلك في سرقة الجثة وقام بتقطيع الجثة لـ42 جزء قام بتوزيعها في أماكن مختلفة في مصر وتحكي الأسطورة أن إيزيس استطاعت أن تجد هذه الأجزاء بل وتحبل منها في بنية خرافية واضحة للقصة لتجنب بعد ذلك "حورس" ويمكن لمن أراد الاستزادة أن يعود لما كتبه " جيمس هنري بريستد " في كتابه " فجر الضمير " ولكن لنقرأ بعض هذه النصوص سويةً : ونتأمل التعابير التي وردت فيها . تقول الحبيبة في بردية هاريس: «كما يذوب الملح في الماء، كما يختلط الماء باللبن، حبك يتخلل كياني، يسري في وجداني، فلتسرع إليّ كصقر ينقض من السماء، كجواد يركض، أو كثور هائج، لتسرع إليّ فمحبوبتك في انتظارك». فيجيبها حبيبها الذى يشبه نفسه بالطائر البري: «شفتا حبيبتي برعم لوتس، ونهداها ثمرتا رمان، وذراعاها كرمة، عيناها توت أسود، وحاجباها فخ، أنا الطائر البري، يلتقط طعم شعرها الفاحم، مجذوب إلى فخها دون تردد» ونقرأ أيضا ما يقوله عاشق مصري قديم في مجموعة من ورق البردى الموجودة في متحف القاهرة: "حبيبتي على ضفة النيل الأخرى، وبيني وبينها النهر والتماسيح، ولكني سأخوض الماء وأتحدى التماسيح، فحبك يمنحني القوة والشجاعة.أنتظرك يا معبودتي في شوق عارم، وعندما أسمع خطواتك، يقفز قلبي بين الضلوع. عندما يضمني ذراعك وتحتضنيني، يصيبني الخدر، وأهيم في عالم آخر، في حديقة فواحة بالزهور، بعيدا، في البلاد أتمنى لو كنت مجرد خاتم لإصبعك الصغير، حتى يتسنى لي ملامسة أناملك في خلسة من الآخرين". وفي إحدى برديات "تشستر بيتي" يقول الشاعر العاشق: "حبيبتي بلا نظير أجمل النساء، مضيئة إذا أهلت كنجمة براقةٍ في ليل عيد، عيناها آسرتان، وشفتاها ياقوتٌ أحمر، والشعر جواهر سوداء تبرق في ضوء النيل، وحديثها منمق أثير" ويمكن الاستزادة لمن أراد الاطلاع على كتاب "أشعار الحب في مصر القديمة" – لفكري حسن

اللحظة اليونانية بهذه الطريقة نرى النصوص الأولى للحب وكيف أنها لم تتغير كثيرا عن مثيلاتها الآن، وإذا حاولنا أن ندفع قليلا عربة الزمن فمن المهم أن نتوقف قليلا في اللحظة اليونانية وهي لحظة فارقة ومهمة، وقبل ذلك يهمني أن أشير إلى أن الاعتقاد الواضح للفروقات بين الحب المتعالي عن فوران الجسد لدى القدماء لم يكن في مصر القديمة فقط، فمثلا نقرأ هذه المقولة المهمة لفيلسوف وحكيم صيني مهم هو "لاوتسه " 604 ق.م إذ يقول: "لن يكون الحب شرا إلا إذا وجهه الجسد وتجاهل إثراء الروح". وبما أننا نتحدث عن اللحظة اليونانية- التي ألصقت صفات مادية كثيرة بالحب أثّرتْ على كل من التفت لمعالجة موضوعات الحب فلسفيا أو أدبيا - يعزى لها ابتكار مصطلح "إيروس" الذي استخدمه فيما بعد "فرويد" في أعماله ، ولعلنا نستحضر عملا مهما لشاعر روماني هو "بوبليوس أفيديوس" وأعني كتابه "آرس أماتوريا" أو" فن الهوى" وهو كتاب في حقيقته موغل في مادية فكرة الافتتان بالآخر، ولا يمكن تجاهل تأثير مفاهيم الإغريق المادية عليه وبالعودة لليونانيين نجد أن بلوتارك (بلوتارخوس 45-120 م مؤرخ يوناني ) يرى أن الحب "عَتَه" ويضيف " أن البعض ظنه داءً.. وهكذا يجب الصفح عن العشاق لأنهم مرضى.." ولذلك سنقرأ تعريفا لاحقا لابن حزم بأن الحب داء، ولا يمكن أن نتجاهل تأثير مثل هذه المفاهيم على تعريف ابن حزم للحب.. وهنا نلحظ أن الحب في اللحظة اليونانية بدأ يأخذ شكلًا آخر، ومساءلة لدوره ولحالاته وسنجد في الأسطورة اليونانية حالات ذهبتْ بالحب إلى أقصى حدوده، وعندما أقول الأسطورة هذا ليس تقليلًا منها وإنما هي جزء من أدبيات تلك الحقبة وسنجد أيضا تلك الاتهامات التي تحاول النيل من جوهر الحب وأن تصفه بالعته، والداء، وتدعي الشفقة على من أصابه، على عكس اللحظة المصرية التي كانت تغني للحب والتي أصبحت شعارًا للرومانطيقيين في مختلف الفنون ومما جعل الناس تتطبع بهذه المفاهيم . أيضا عن اللحظة اليونانية

- يتحدث أفلاطون في محاورتين شهيرتين هما " المأدبة" و "الفيدورس" وهما بعد محاورته الشهيرة "الجمهورية "عن تلوث يصيب النفس، جراء تأثير الجسم عليها، لكن هذا التأثير هو تأثير مغاير أشبه ما يكون بالجنون، وهو لا ينشأ إلا عن تعلق بالماوراء ، ولا يتخلق في داخل هذه النفس، بل إنه يأتي من الخارج ويصفه مثلا "دينيس دي ريجمون" بالهيام والتعلق الرباني، واستخدم "دي ريجيمون "مصطلح "الجنون الرباني" ولمن لا يعرف "دينيس دي ريجيمون " هو باحث مهم في تاريخية الحب . وفي هذا الموضع لا يمكن لنا تجاهل تلك العينية الشهيرة لابن سيناء التي يظهر فيها التأثر الواضح بالنزعة الأفلاطونية إذ يقول قاصدًا النفس : هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ * وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ

مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ * وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ

وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا * كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ

أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ * أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ الموقف الديني من الحب

هناك من حاول أن يقارب استحالة تعريف الحب بتعبيرات شتى تسمح بها اللغة، وما لا تطيقه اللغة كثير، وهذا يخالفنا فيه من يرى الوجود من نظارة اللغة، باعتبارها قالبًا للوجود برمته، و لئلا نذهب بعيدًا خارج الموضوع نقرأ مثلا ما تقوله شخصية أندلسية كبيرة مثل ابن حزم عن الحب فيقول: "الحب مرض عضال، دواؤه منهُ، هو حالة لذيذة وداء نشتهيه، فمن نجا منه ودّ لو يُصيبه، ومن ابتلي به وشفي منه لا يجد لذة في شفائه " فهنا نجد أن ابن حزم يحاول التعبير عن الحب باجتماع النقائض فالدواء هو ذاته المرض مما جعله يصفه بحالة من التلذذ بهذا المرض، إذ هو الداء الذي نشتهيه، وكلما نجونا من شركه وددنا لو أن هذا الشرك جرنا له من جديد وما من شيء في الحياة تجتمع النقائض في وصفه إلا كان الإمساك به محالًا تماما كالسراب .وهنا أود أن أشير إلى فكرة جوهرية، تعطي معنى لفشل ذهاب الحب بعيدًا برفقة الدين ألا وهي: أن الحب والدين لا يلتقيان، فالدين مبني على الرهبة والخوف ، على الحجْب وعدم المساس بالمحتجب بل تقديسه، بينما الحب في أقاصيه البعيدة يستمد طاقته من فكرة الكشف، ونزع الستار عن المحتجب في العلاقة، وهنا يمكن أن نفهم مفهوم الجسد وتناصه الدائم مع العشق ، ولعل فكرة "الحب الإلهي" عند المتصوفة تعد الإشكال الأكبر بينهم وبين التيارات الرسمية للدين ولعلنا كذلك نستعيد قول شخصية أخرى مهمة وهو الإمام القشيري المتوفى (465 ه) ه إذ يقول -وهو من المتصوفة الكبار- :" لا توصف المحبّة بوصف، ولا تحدّد بحدٍّ أوضح ولا أقرب إلى الفهم من المحبّة، والاستقصاء في المقال عند حصول الأشكال، فإذا زاد الاستعجام والاستبهام سقطت الحاجة إلى الاستغراق في شرح الكلام " إننا إذا ما اطلعنا على النظرة الإسلامية لمفهوم الحب واقترانه بالجسد، سنجد موقفًا سلبيًا خصوصا إذا ما كان هذا الحب خارج إطار مؤسسة الزواج، كغالب الديانات الأخرى، فإلى جانب النصوص المقدسة التي تشير إلى ذلك، يهمنا أن نشير إلى كتاب طريف في الحقيقة للعلامة أبو الفرج عبدالرحمن بن أبي الحسن الجوزي والشهير بـ"ابن الجوزي" ألا وهو كتاب "ذم الهوى" وهو مصنف اشتهر شهرة واسعة في عصره، وهو في الحقيقة يكاد يخرج عن النمط الوعظي، ويقدم مقترحات تكاد تكون فلسفية للشباب، لذم الافتتان بالجسد على النقيض تماما لما فعله صاحب كتاب "فن الهوى" كما ذكرنا سابقًا، ويتخيل البعض أن ابن الجوزي قد هجم على الحب وهذا ليس صحيحا، بل هو يسوق لنا عيوب العشق والهوى، الذي ينطوي على نوازع جسدية متأججة، فهو يحذر من الوقوع في مغباتها، ويسرد عددا من القصص التي تؤكد أن قصة الحب هي قصة تراجيديا في الأساس وهذا ما سنراه في قادم هذه الورقة. شكل الحب في الجهة الأخرى القرن الـ12 وحتى القرن الـ20 "أيها الأسياد أيروق لكم أن تسمعوا قصة جميلة عن الحب والموت ؟ " نقرأ هذه الافتتاحية في بداية قصة" تريستان و إيزولده" والتي نراها متمثلة في أوبرا شهيرة قام بتأليفها "فاغنر" عام 1859م ويمكن لنا أن نتساءل عن ذلك الربط بين الحب والموت الذي يحضر أيضا بشكل كبير في تعابير الحب لدينا اليوم "أحبك موت" وغيرها من التعابير المشابهة والتي يكتظ فيها التعبير الشعري العربي أيضا كذلك مما يحيل إلى أن القصة الأساس للحب هي قصة تراجيدية، ولا تكاد قصة الحب السعيد أن تكون موجودة، وإن وجدت فهي لا تملك أي تأثير مقارنة بـروميو وجوليت، مثلا أو بـ ديك الجن الحمصي (عبدالسلام بن رغبان الكلبي) أو بعذابات قيس بن الملوح، أو بما قاسته إيزيس في حبها لأوزريس، ويؤكد على كلامنا هذا، تقسيم "رولان بارت" للمغامرة العشقية إلى ثلاث مراحل: الافتتان والتوله المفاجئ، فمرحلة الزمن السعيد، ثم زمن التعاسة وبطبيعة الحال كذلك لا يمكن أن نغض الطرف عن قصة مهمة جدا في "التراث الغربي " وأقول التراث الغربي مجازًا للإشارة للمكان الذي ظهرت فيه هذه القصة، وهي رواية "آلام فارتر" للأديب الألماني "غوته" والتي نشرت للمرة الاولى في عام 1774م وقد أثرت هذه الرواية بالذات على "حركة العاصفة والإبداع" وكان لها أيضا تأثير كبير على حركة الرومانطيقية في الأدب ككل . ولعل أكثر التراجيديات المعاصرة شهرة قصة ملك بريطانيا "إدوارد الثامن" وحبيبته "واليس سمبسون" إذا كلفه حبها أن يتخلى عن العرش حينها وقد تم تخييره بينها وبين عرشه، فلم يشعر بالكثير من الحيرة ولم يتردد، فأعلن تخلّيه عن منصبه في خطبة ألقاها في 11من ديسمبر عام 1936، مقرّرًا البقاء مع حبيبته، ومؤكّدًا لجميع المواطنين البريطانيين أن حُبّه لتلك المرأة هو السبب الوحيد في قراره، حتى سُمّي بـ"الملك العاشق". بدأت قصة الحب التي جمعت بين إدوارد الثامن، و واليس سمبسون في عام 1926، عندما تعرف الأمير إلى واليس فور وصولها مع زوجها الذي كان يعمل سمسارًا للسفن، وسرعان ما شعر تجاهها بمشاعر حبّ حقيقي، بالرغم من كونها في نصف جمال وجاذبية أي امرأة من اللواتي عرفهن الأمير، ولم يكن يحبّ أيًّا منهن، انفصلت سمبسون عن زوجها لاحقًا، فوجّه إليها إدوارد دعوة ليستضيفها للإقامة معه في بيته في الريف الإنجليزي. في 20 كانون الثاني 1936 أصبح الأمير إدوارد ملك بريطانيا بعد وفاة والده، وبعدها مباشرة حصلت هي على الطلاق من زوجها، وبدأت ترتيبات الزواج من الملك، ولكن كان من المستحيل أن يتزوج الملك من مطلّقة باعتباره راعي الكنيسة الإنكليزية، ليطالب رئيس الوزراء، الملك، بالاختيار بين العرش والزواج من تلك المرأة، لتكون إجابته: "إن العرش لا يعني شيئًا بالنسبة لي دون وجود واليس إلى جانبي".وعلى إثر قراره وقّع في 10 ديسمبر 1936 وثيقة التخلي عن العرش، ويعلن زواجهما في الثالث من تموز 1937. وتكمن تراجيدية القصة أن هناك خطابات أظهرتها السلطات البريطانية قبل سنوات قليلة تؤكد خيانة واليس سمبسون للأمير إدوارد مع زوجها السابق

مستقبل الحب

- يقدم لنا عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في كتابه المهم "الحب السائل" ما يشبه الهجاء لفكرة الحب في الوقت الآني إذ يرى في تحليله أن : " الحب بطبيعته يسعى إلى إدامة الرغبة، وأما الرغبة فبطبيعتها تهرب من قيود الحب". و هنا يهمنا أن نطرح السؤال التالي: إذا كان في الوصول إلى الجسد منتهى صورةٍ من صور الحب، ألا نلمح بأن تأخير اللذة في هذه الصورة هي حيلة من حيل الشهوة ؟ و في هذا لاشك تكرار ديالكتيكي عفوي لفعل الغريزة يرى باومان أيضا أنه لا معنى لوعود الحب على المدى الطويل في هذا الوقت، الذي أصبح فيه امتداد الزمن، آخره ..الآن وهنا. ويطلق عليه "زمن القطع غيار " فشريكك قد يستبدلك بفرصة أفضل، وقد تستبدله أنت بفرصة أفضل وهنا لا معنى لتلك الوعود الكلاسيكية التي تربط الحب بالوفاء، والارتباط الأبدي، فلا أبد في الحب الحاصل الآن كما يرى باومان . ويلتقي مع باومان فيلسوف جدلي مهم آخر

:وهو " آلان باديو" والذي يتحدث في فقرات عديدة من كتابه

The Meaning of Sarkozy وفي كتابه الآخر "في مدح الحب " بأن هناك نوعاً من اللا أمان في علاقات الحب المعاصرة تقترحها النظم الاجتماعية وتداعياتها وهي إلى حد ما تشبه اللا أمان الذي تقوم عليه الرأسمالية تجاه الموظف، فالرأسمالية تتنصل من مسؤولياتها تجاه الموظف، وكذلك الحب الآن يتنصل من تبعاته القديمة، ولكن نوعًا ما يبدو هذا، وكأنه فعل متوازٍ أي أنه يحدث من الطرفين بالتساوي، ولكن ظاهرة اللا أمان هذه، أو الحب المهدد تعتبر معضلة الحب الحقيقية الآن

تقدم التكنولوجيا الآن شكلا مهما من أشكال العلاقات في مختلف أبعادها ولن يكون من الصواب إغفالها فهي تساهم بشكل ما على تأكيد ما ذهب له باومان وباديو، فهي تقترح نوعا من العلاقة التي تحاول التخفيف من المخاطرة باقتراح مزايا جسدية معينة، رغبات مشتركة بين الطرفين ، زوايا رؤية معينة يريدها كل طرف من الآخر وبالتالي هذا يحيل الحب من فعل إنساني يتأثر بما تتأثر به حالات المرء وظروفه، إلى ما يشبه المنتجات التي تصطف على أرفف السوبر ماركت، وفي الحقيقة أن إطلالة بسيطة على نوعية هذه المواقع والتطبيقات التي تقدم خدمات الحب واللقاء بالشريك المناسب يمكن أن تكشف لنا إلى أي مدى يبدو الأمر جادًا. إن الخطورة في مثل هذه الطريقة في بناء علاقة الحب تكمن في أن فكرتي التعلق والتخلي هما رهن زر واحد، يمكن لأحدهما أن يضع النقطة ويغلق حكاية حب حدث فيها كل ما يمكن أن يحدث بين اثنين يحبان بعضهما البعض، وهذا يمحو بلحظة واحدة الأنساق الوجدانية المشتركة التي اعتمدت عليها المدونات الكبرى في تاريخ الحب البشري، فلم تعد "أمر على ديار ليلى" مقنعة في حب يأخذ هذا الشكل السريع في تبلور المشاعر وبلوغها جذوتها و انطفائها تماما كالوجبات السريعة. الهوامش

أشعار الحب في مصر القديمة- فكري حسن

الحب والغرب ، دينيس دي ريجمون –صــ14 –ترجمة : د. عمرو شخاشيرو

شذرات من خطاب العشق-رولان بارات

العاصفة والاندفاع هي: حركة أدبية تمتد من عام 1767 إلى عام 1785؛أخذت هذه التسمية من اسم مسرحية فريدريش ماكسيميليان فون كلنجر. ويتميز عصر العاصفة والاندفاع بتمجيد العاطفة البشرية الجارفة والقلب المتأجج بالشعور، وبعدم الاهتمام بالعقل الذي كان سائدا في عصر التنوير


سيدي العزيز إنني لا أذكر اسمك، وربما لن تذكرني. ومع ذلك سوف تتذكرني بلا شك إذا قلت لك .أنني الصبي الذي ، قبل عشرين عاما، قام باقتطاع قطعة من لحم ذراعك يجب أن تكون صورة الوحش حاضرة في رأسك الآن. قد تشعر بالألم الجسدي، وبقايا ما اختبرتهُ عندما كنت أغرز أسناني في جسدك. يؤسفني ذلك. لكن دعني أكون واضحا؛ هذا ليس اعتذارًا. هذا تعويض. بينما تواصل الخلايا السرطانية هياجها في جسدي، أكتب هذه الرسالة لأشاركك قصة تحرري، وأعلمك أن تحرر نفسك. إذا كنت تقرأ هذه الرسالة بحرص شديد، فسوف تصبح حرًا ، وستتخلص من الشراك التي تجر انسانيتك إلى الأسفل نحو سهلٍ عالٍ وذلك عوضًا عن الألم الذي ألحقته بك. كنتُ قد أصبحتُ أشبه الوحش عندما كنا جيرانًا، ولكن عليك أن تعرف أنني لم أولد هكذا. فكما قيل بدأ هذا التشوه ينتابني بعد وقت قصير من عيد ميلادي الثالث. كان نموي قد توقف لمدة عام تقريبا. ثم بدأ ظهري يحدودب ببطء، وكأن أحدًا ما يبني عليه تلة نمل، ثم بدأت يدي بالنمو ووصلت إلى ركبتيّ. وعندما بلغت السابعة بدأت أسناني تنمو للخارج، لدرجة أنني ألم أستطع اغلاق فمي بالكامل. أصبحت الأنياب ضعف حجم أسناني، أي ثلاثة أضعاف حجم أسنان البالغين . حاولت أن أغلق فمي كاملًا لكنني لم أستطع وهذا ما سيجعلك تستمر في رؤية نابين مُصْفرّين بارزين . هذه هي الطريقة التي ستذكرني بها. لكنني تغيرت بشكل كبير. حدث تحول بين عشية وضحاها، وهو اليوم الذي أصبح فيه لحمي حرًا. سأخبرك بهذه القصة إنني أحب أكل اللحم النيء وحده. عندما كنت طفلا قمتُ برفض الطعام لأشهر عديدة، مما اضطر والداي إلى أن يطعمانني لإبقائي على قيد الحياة فقط. وكان أول شيء أكلته طوعا قطعة من لحم خروف التقطها من طبق أبي، و تذوقتها بطرف لساني، لاحظ والداي أن عيناي أشرقتا بينما كنت آكل، مما دفعهما لإعطائي قطعاً كبيرة من اللحم قبل أن أكبر قليلا. إنني أفترضُ أن والديك، مثل غيرهم من الناس في الحي، يلومون والديّ على ما أُصبتُ به وما فعلته كان ذلك حقًا ظلما كبيرا . والحقيقة أنهم لم يكونوا يملكون طريقة أخرى لإبقائي على قيد الحياة فيما بعد نمتْ شهيتي تجاه تناول اللحم النيء. في السابعة أخرجت أكياسًا من اللحم المجمد من الثلاجة، وخرجتْ إلى الفناء الخلفي، وضعتها تحت الشمس، وانتظرتها لتذوب، جرب ذلك بنفسك. إنه مشهد لا ينبغي تفويته.. يتفتّح اللحم بلطف، يصبح ناعمًا، يستعيد لونه، يتلألأ بالدم، وكأنما يستعيد حياته. إن أفضل لحظة هي عندما تتم إذابته لا عندما يكون دافئًا. ابدأ بأكبر قطعة يمكن لفمك التعامل معها. املأ فمك باللحم، واشغل أسنانك، وافرك اللحم على كل فمك بأكمله. وبعد النهشة الأولى لا تتوقف .. استمر ولكن بأجزاء أقل من الأولى، استمر لا تتوقف، ستطيل استمتاعك بهذه الطريقة، دع الاحساس يسافر في جميع أنحاء جسدك كنت أحب أكل كبد الخروف. اعتدتُ على سرقة النقود من جيب أبي والتسلل إلى متجر الجزار لشراء قطعة من الكبد. ثم الذهاب بعد ذلك إلى زقاق فارغ والامساك بها ومراقبة انعكاس الشمس عليها. هل سبق لك أن اهتممتَ بكبد الخروف؟ إن لها سطحًا أملسًا. كنتُ أقضي عدة دقائق في تمسيدها. حقا إنهُ شعور سماوي لا أملك الكلمات التي يمكن أن تصفهُ. ثم أقوم بتمرير لساني عليها ببطءٍ شديد، وبحنان شديد أيضا، للسماح لطبقة الدم بالتسرب إلى الأنسجة الموجودة في لساني !!ثم أتى ذلك اليوم.. اليوم الذي هاجمتك فيه لقد حرمتني التشوهات من لعب كرة القدم، لكني كنت دائما أتوق إلى فعل شيء ما والمساهمة في اللعبة. ربما تتذكر كيف كنتُ قبل ذلك اليوم المشئوم، حيث لعبتُ مرة دور الصبي الذي يطارد الكرة. وفي الوقت الذي كنتَ تلعبُ فيه في الشارع، كنتُ أقف خلف أحد المرميين، وأنتظر أن تغادر الكرة الملعب لتركض أنت كالقرد خلفها لتعيدها في ذلك اليوم، وفي وقت مبكر من اللعبة، ركل أحدهم الكرة إلى خارج الملعب . توقفتْ عند قدميّ، ثم أتيتَ أنت راكضا خلفها. قمتُ بالتقاط الكرة، لكن يدايّ تجمدتا. لقد كانت كرة قدم عادية. يمكن الحصول عليها من أي مكان. لكن اللون الذي كان عليها بدا لي غريبًا وفريدًا ربما ستفضل تسميته بالأحمر، لكنه لم يكن الأحمر. كان لذيذًا. لا هو بالأحمر الداكن أو البني. إنه كبدي. لون فريد يشبه لون لحم الخروف. كنتُ أعتقد أنه من المستحيل أن يتكرر ذلك اللون، حتى تلك اللحظة التي أمسكتُ بها الكرة أمام عيني. فكّرت بمبدع هذا اللون. تخيّلتُ رجلا يشبهني جدا. يغمّسُ الفرشاة في دلو من الكبد السائل، ويضرج الكرة به. مما منحها هذا اللون. رأيتُ الخطوط الكبدية تغادر الكرة، وتستحوذ على رأسي، تتخلل مسامي، تتردد حول رأسي، تتراجع الألوان وتهتز صعودا وهبوطا في الهواء. آخذةً شكل كبد خروف عائمة ثمّ فجأة قمتَ بدفعي. كنتَ على حق نعم إذا ذهبتَ إليها قبلي، لكنني لم أرك تقتربْ. سقطتُ على الأرض وتلاشتِ الصور. نظرتُ ورأيتك. أنا آسف لكوني مباشرًا، لكن أول ما لفتَ نظري هو قبحك، أنفك الأحمر الكبير، بشرتك البائسة ذات البثور، خبثك الشديد. كان جسمك عبارة عن نموذج لمن بلغ متأخرًا، والذي يظهر بشكل أشد وضوحا في مزاجك الناري. "ارم الكرة أيها الغريب الأحمق" هكذا صرختَ. وقبل أن أتمكّن من الرد عليك، انتزعت الكرة من قبضتي وأضفتَ بانفعالٍ شديد " أنت أبله سخيف" وذهبتَ بعيدًا سيدي، لأكن صريحا معك، ما زلتُ لا أعرف ما حدثْ. ستعترفُ أن رد فعلك كان قاسيا، لكنه بالتأكيد ليس مبررًا لما فعلتهُ. لقد تعلمتُ كيف أكبح جماح نفسي عندما يثور الآخرون. لكنني لم أحسن كبحها في ذلك اليوم ربما تتذكر بوضوح، أنك عندما استدرتَ للانضمام إلى رفاقك هاجمتك من الخلف وأمسكتُ بمعصمك، وغرزْتُ أسناني بذراعك واقتطعتُ قطعة من لحمك ومضغتها واستمتعتُ بها، دعك من الدم الذي كان يقطر من فمي، لقد رأيتك تتلوى وتنسحق على الأرض، وتصرخ مثل ذئب مخصي بعد ساعة، جئتَ أنت و والداك إلى بابنا. وجاءت كذلك عائلات باقي الفتيان الآخرين. وأتت الشرطة، وانضم المارة والجيران إلى الحشد. كنتُ أشاهد هذه الدراما من خلال شق في الستارة. لم أتمكن من سماع الكلمات، لكن الحشد كان غاضبًا، وهذا ما جعل جسدي يرتجف. يجب عليك أن تتذكر اللحظة أفضل مني. لأنك سمعتهم. كان الجميع، بما في ذلك المارة، على استعداد لشنقي في الحال. رأيتُ والدتي بعد ذلك تنزل لتفتح الباب. اختبأتُ في غرفة نوم والدي، أغلقتُ الباب وزحفت إلى أسفل السرير. قامت أمي بتهدئة الحشد، وأقنعتهم بالرحيل. وعندما تفرقوا كان أبي قد وصل، ويجب عليه أن يكون قد سمع القصة بالفعل، لأنه جاء لي مباشرة، وجرّني على الأرض في غرفتي وضربني ضربا مبرحا وأغلق عليّ الباب لم يُسمح لي بمغادرة الغرفة لمدة خمسة أيام. كانت أمي تأتيني في كل بضع ساعات بالطعام والأخبار. أعرف فقط أن أبي تحدث إلى عائلتك لمدة يومين. وعلى نحو غير عادل جعلتْ عائلتك أبي يدفع مبلغا كبيرا من المال، أكثر بكثير من أي شيء يمكن له أن يتحملهُ، أكثر من أي شيء كانت المحكمة ستحكم به. لقد شعر والداك باليأس، إثر جهوده لإبقاء المسألة خارج المحاكم، واعتبروه مستفيدًا من ذلك. ربما كان لك رأي مختلف، لكن هذا هو الأمر كما بدا لي من وجهة نظري في اليوم التالي باع أبي سيارته، واقترض أموالا من أخيه، وقام بسحب بقية مدخراته. بعد يومين، اشترى كوخا و بعد يوم من كل هذا، فُتح الباب لغرفتي. وقف على العتبة وظل يحدّق فيّ طويلا. فتح فمه مرتين ليقول شيئاً ولكن لم يخرج شيء من فمه. ثم انفجر بالبكاء، هزّ جسده واشتدّ. انهار على الأرض، اتكأ على الحائط، وجمع ركبتيه إلى صدره، محيطا رأسه بيديه، مهتزًا ذهابا وإيابًا أخيرًا نهض وطلب مني مرافقته إلى غرفة الجلوس، كانت أمي قد حزمتْ أشيائي، كانت تبكي وهي تنزل رأسها للأسفل كي لا أراها. " أراك قريبًا" .. كان هذا الشيء الوحيد الذي قالته، ثم عادت إلى غرفتها دون أن تمسّني. سمعتُ صرخاتها المكتومة في الوسادة. التقطتُ بعدها الحقيبة. كان هذا آخر يوم لي في المنزل الذي عشتُ فيه طوال حياتي،كان آخر يوم لي في الحي الذي ترعرعنا فيه أنا وأنت، ومع ذلك لم أشعر بشيء. مجرد حزن حلو، وشعور مبهم بالراحة الكوخ كان بعيدا عن المدينة. إذا اقتربتَ من المدينة من الجنوب وتطلعتَ إلى يمينك على بعد خمسة أميال من محطة القتلى، فستكتشف كم هو موحش هذا المكان، إذ المسافة بينه وبين أقرب جارٍ لي قرابة الميل . جلسنا في السيارة بعض الوقت. كان المنظر الطبيعي أرضًا خاوية مبعثرة مع بعض مواقع البناء المهجورة والمصانع البائدة. أعطاني أبي حزمتين من الفواتير قائلا : " أنا أعلم أنها ليست بالكثيرة ، لكن هذا كل ما لدينا.. آنا آسف. ثم بقينا صامتين. فجأة قال: "أتعلم، أعتقد أنه قد حان الوقت الذي عليك فيه أن تعيش وحدك، إنه أصعب قرارٍ اتخذناه أنا وأمك على الإطلاق. فعلنا كل ما في وسعنا لتجنب هذا اليوم. العيش معنا في المدينة ليس خيارًا. سيؤذيك الناس." توقف فجأة واقترب مني، سعيا للحصول على رد مني. كان علي أن أقول شيئا لكنه أردف قائلا : " أنا متأكد أنك ستكون طبيعيا قريبا"، مضيفا أنه لم يحاول حتى التظاهر بأنه يصدق ذلك. "سأحاول أن أطمئن عليك أسبوعيا" وكانت هذه كذبة أخرى كان الكوخ عبارة عن غرفة صغيرة وحمام. لا يوجد مطبخ أو خزانة، كان أشبه بمكان إقامة مؤقتة للعمال. في الأسبوع الأول، كنت أنام عشر ساعات في الليلة. نوم عميق خالٍ من الأحلام، كأنني لم أنم لأشهر. استيقظتُ في وقت متأخر من الصباح وسرتُ لمدة ساعة للوصول إلى رمز الحياة الوحيد في الجوار.. أربع بنايات شاهقة حول ميدان صغير محاطٍ بمتاجر، وأماكن لتناول الطعام. أصبح هذه الميدان ملعب صيدي. كل يوم كنت أتمشى فيه، تجولت في أرجاء المكان لساعات، لاحظت الناس ونوافذ المحلات، بحثتُ عن الطعام. لم يدهشني أن الناس كانت تنظر لي بريبة، لأنهم فوجئوا بظهوري بينهم كغريب، لكنهم قبلوني بسهولة أكثر بكثير من الذين نشأت معهم. كنت فقط مجرد متشرد مهووسٍ بالبحث عن الطعام، في غضون بضعة أسابيع، اختفت ملامحهم العابسة، ونظراتهم المستهجنة، واستُبدلَ كل هذا بالابتسامات، وربما بعض الأحاديث القصيرة أحيانًا، بعضهم أطعمني نصف سندويش، والبعض ما تبقى من حفلاتهم. مرة أكلت سلة من أجنحة الدجاج التي كان قد أُكل نصفها. حاول البعض معرفة كيف انتهى الأمر بي عندهم. كنت أجيب على استفساراتهم بهدوء وأناقش بتردد انتقالي من بلدتي الأولى. وفي يومٍ خريفي بارد كنت أقف على الرصيف، محاولًا أن أحظى بأشعة شمس الظهيرة. كانت هناك شاحنة تقف على بعد خطوة مني. ترجل منها شخصان من الخلف. قاما بارتداء قفازاتٍ صناعيةٍ سميكة، وجلبا مرآة كبيرة من الشاحنة، قاما بحملها على طول الرصيف. قمتُ بإلقاء نظرة على المرآة، فألفيتُ وجهي منعكسًا فيها، لم أكن قد رأيتُ وجهي منذ أشهر، لأنه لم يكن في الكوخ أي مرآة، وكنتُ فقط قد اكتفيت بانعكاس وجهي على واجهات بعض المتاجر. تابعتُ المرآة وحامليها وصولا إلى متجر لبيع الزجاج. فوجئ مالك المتجر عندما وقفتُ في مدخل المتجر. قلت له: "أريد أن أرى نفسي في المرآة". فدعاني للدخول. لم يتغير جسدي بعد. كنتُ ما زلتُ أحمل ذات الشكل، لكنني بدوتُ مختلفًا، كان تصوري لنفسي مختلفًا. بدتْ أنيابي المتعرجة مثيرة للإعجاب، سولت لي نفسي أن مظهري يظهر براعتي، وأن شكلي باعث للتسلية وأن النظر إليّ جميل أستطيع أن أتخيل أن تواجه صعوبة في تصديق ما تقرأه. إنك لا تتفاجأ مما أذكر، أنت انسان عادي، طبيعي، مما يعني أنك تعاني من فشل شديد في المخيلة كنوع. البشر مملون جدا ومتجانسون إلى حد بعيد. أنتم لا شيء سوى المليارات من الدلاء المملوءةٍ بأنواع مختلفة من الشراب. لا يمكنكم فهمي أبدًا، أنا فريد من نوعي، أنا فوقكم في الأسبوع التالي، ظهرتْ شاحنة أخرى كان يوماً خريفياً مشمساً وباردًا أيضا، توجهتْ شاحنة صغيرة بيضاء مبردة إلى الساحة، وتوقفتْ أمام متجر الجزار. فُتح الباب الخلفي، خرج رجلان، قاما بسحب جثةٍ من الثلاجة، وأخذاها إلى المحل. أثار لون اللحم شهية نائمة بداخلي، اقتربت للحصول على نظرة أفضل. كانت خمسُ جثثٍ من العجول الطويلة تتدلى من خمسة خطافات مغلّفةٍ بشكل جعلها جذابةً، وهي في بخار الثلج. بينما كان الرجال يُتِمون أمر حسابهم مع الجزار داخل المتجر، اقتربتُ و مددتُ يدي، قمت بلمس اللحم الموجود على أرضية الشاحنة المبردة، أشرقتْ عيناي، وتجمدت أصابعي في الهواء.

كانت كبد خروف كبير على الأرض، وفي منتصف الكبد استقرت عين ما. عينٌ حقيقية كاملة متألقة، ينقصها جفن، كانت صلبة وصغيرة، ثابتة كمؤخرة غير متناسقة لتلميذ كبير تعكس كل الضوء القادم من السماء. لاحظت ارتعاشًا خفيفا في التلميذ كما لو أنه على وشك أن يذرف الدموع. تراجعتُ، نظرتُ حولي، قمتُ بهزّ رأسي للتخلص من خيالاتي. بقيتْ العين على الكبد، كصخرة على أفق مسطحٍ. حاولت الكبد التواصل معي.. لكن، لحظة خروج الرجال من المتجر. خطفتُ الكبد من الشاحنة وركضتُ بعيدا. تجولتُ في أرض قاحلة، وأنا أحدّقُ في عين الكبد. ظلّت العين محدقةً، ارتجافها طفيف، لا تناسقها، براءتها. كلما حدّقتُ في العين كلما شعرتُ بآلام وركلات في الداخل، شيء ما يضغط ويضغط، إنه يكافح كي يولد. بقيت الرسالة غامضة. إنها في رأسي، هناك ضجةٌ في جدران جمجمتي، شيء ما يحاول الخروج، إنه على أطراف ذهني، إنه الماضي يتدحرج. ظل جسدي يهتزّ رغمًا عني، كما لو أن أجهزتي نظمتْ انقلابًا ضد ذهني . أغلقتُ عينيّ و وجّهتُ تركيزي لقمع الثورة. عندما فتحتُ عينيّ مرة أخرى، كان العالم "كبديًا"، الأرض، السماء، المباني، كلها كانت على ما يبدو امتدادًاللكبد التي أمسكها بيدي. الأرض القاحلة صُبغتْ من جميع الجوانب بنفس لون كرة القدم تلك، وكأنما تـمّ سحب طبقةٍ من الكبد وتلطيخ العالم بها، من الخنفساء التي كانت تحت الصخرة الصغيرة بجوار قدمي، مرورًا بالصخرة نفسها وحتى أبعد نقطة في نظري.. خط التقاء السماء بالأرض. ثم فجأةً سمعت شيئا. مزّق الضجيجُ العالي طبلة أذني. صوت انفجار هزّ جسدي بقوة. أطرافي تطوقني، ذراعي الأيسر طار أمام وجهي. فمي فُتحتْ. أنيابي تخترق اللحم. تبعتْ أسناني الأخرى أنيابي. وقطعةً فقطعة.. تدفق الدم حول أصابعي قطعتها فاختفت تحت قدمي في الأرض الكبدية. كنتُ لا أزال أقف في وسط عالم كَبِديّ، قطعة من لحمي في فمي، أخرجتها. نظرتُ إليها، كان حجم القطعة تقريبا مقاربًا لحجم الجزء الذي اقتطعتهُ من ذراعك. رميتها بعيدًا وانهرتُ على الأرض. لقد تم فتح رموز الرسالة. فتحت الكبد عينها عليّ لأنها وجدتني على استعداد لاتخاذ الخطوة الأخيرة. قفزتُ ومشيتُ صارخا بأفكاري في الصحراء الصافية: نحن لا شيء سوى ترتيب معين من الأعضاء الحية المرتبطة بالعظام. أما البقية فهي واجهة.. الرؤية، الانفعالات، الغضب، الحب، وضعها الذهن لإخفاء هذه الحقيقة الجسدية. اللحم هو ما أنا عليه. اللحم هو ما أنت عليه. لكن الكبد لن تفتح لك عينها يا سيدي. إنك لست مستعدًا لذلك. ولا أي عضو من أعضاءك مستعد لذلك. لقد ولدتُ مستعدًا لذلك منذ اليوم الأول. كان لحمي يدير كياني منذ اللحظة الأولى. فتحت الكبد عينها الخارجية لأنها رأت من أنا. أنا ما أنت عليه عندما تُفك قيود الجسد. في طريقي إلى المنزل، فكرتُ بك. أعدتُ استحضار اللحظة التي اقتطعتُ بها ذراعك بفكيّ، كما لو كانت شاشة تتدلى خلف الخلفية الساطعة للسماء. إنني أشعر بالأسف تجاهك. لقد قمتُ بتذكيرك بكل تفاصيلك: عيونك الصغيرة وفمك الكبير، وجهك الفاسد، أطرافك الضيقة قد تبدو أفضل الآن ولكنك كأحد أفراد أنواعك، لم تتغير طبيعتك الأساسية. أنت لا تزال مرتبكًا للغاية.. يظهر هذا في حواسك المكسورة، التي أُعميَ بها عقلك الفقير، الذي يتأثر بشدة بغرورك، أنت ضعيف جدًا، ضعيف لتحدق في الهاوية التي بداخلك. في اليوم التالي ذهبتُ إلى الساحة وعدتُ بحبل سميك طويل. قمت بربط نفسي بالكرسي، جسدي بأكمله، الساقان والجذع. قمتُ بربطهما وضيقت الرباط جدا، لم أترك أي مجال للحركة. ثم دفعت ساقيَّ بعكس اتجاه الحبل، عندما تفعل ذلك، هذا يعني أن جسمك يريد التحرك لكنه يفشل، ونتيجة لذلك، تُفتح عينك الداخلية وينتقل التركيز إلى العضلات التي فشلت في التحرك. ظللتُ أدفع، ومع فشلي المتكرر في التحرك، ازداد وعي اللحم بقيوده، وطور الرغبة في التخلص منها. واصلت الدفع طيلة يومين وسبعة عشر ساعة، بعد كل هذا الوقت، قرر جسدي أن يأخذ ردة فعل، شعرتٌ أنني أصبحتُ لينًا مثل لبّ ثمرة. انتابني هبوط، شعرتُ وكأنما لا شكل لي . ثم جاء ذلك الضجيج، نفخة من الداخل، هذا نداء الجسد. يجب عليك فعل نفس الشيء يا سيدي. اذهب إلى مكان بعيد عن الوجود البشري. اترك كل شيء خلفك. الكرسي والحبل، والمأوى هو كل ما تحتاجه. اربط نفسك بالكرسي، بحيث لا تكون هناك عضلة واحدة قادرة على الحركة. ادفع بعكس اتجاه الحبل.. ادفع باستمرار، ساعة بعد ساعة، أتبع الليل بالنهار. إذا استمريتَ بقوة في الدفع لفترة طويلة، ستصل إلى اللحظة التي يُخلِّصُ فيها اللحم نفسهُ من العظام ويطفو بحرية في جسدك. ما زلت مربوطًا، لكن الحركة بداخلك تخرج عن سيطرتك. عندما تصل اللحظة، الصراخ سيعلو رئتيك، إذا التقطتها بشكل صحيح، فسوف تشعر بانزلاق اللحم وأن دماغك قد توقف. اصرخ.. سوف يتنفس الجسد ويهتزّ حتى النخاع. إذا لم يحدث ذلك.. لا تدع اليأس يهزمك. اصرخ اجعل اللحم أكثر مرونة، امنحه الحرية.. اصرخ، يجب أن يصبح جسدك حوض ماء للحمك. استمر بالصراخ. اصرخ من تحت الحجاب الحاجز تحت رئتيك مباشرة. اصرخ لا تتوقف. ستعرف متى عليك التوقف وحلّ رباطك. في هذه اللحظة سيكون لحمك حرًا ، يتوقف عقلك عن إملائك كيف ترى العالم. توقف عندما ترى من ركبتيك. أو معصميك، استخدم مرفقك في التفكير، اضحك من كليتك، اصرخ من أصابع قدميك. توقف عندما تسمع من فخذيك. تجشأ من عمودك الفقري، اهمس من خصيتك. فك رباطك واشعر بهذا العلو. هبوط جسمك على السهل العالي . أعلى بكثير مما يجرّ انسانيتك إلى الأسفل. سوف تفكر بي في تلك اللحظة، وتُقرّ بأنّ ما علّمتك إياه يستحقُ أكثر بكثير من قطعة صغيرة من لحمك. المخلص لك .


قضيت الثماني السنوات الأولى من حياتي في منطقة حرب. ثماني سنوات من الضجيج الذي يصم الآذان: الأصوات المتقطعة لمضادات الطائرات، أزيز الطائرات الحربية، ورصاصات الكلاشينكوف، التعاقب المتواصل لقذائف الهاون. ثماني سنواتٍ من الأضواء المسببة للعمى. سحابة النار البرتقالية الداكنة التي تنشأ بعد انحسار انفجار ما، الخيط الأحمر الرقيق الناشئ من إطلاق النار الكثيف من فوهات البنادق، .السجائر المحترقة التي تضيء الشوارع كالمنارات في الليالي المعتمة في سبتمبر 1980، بعد أيام قليلة من عيد ميلادي الأول، اندلعت الحرب بين إيران والعراق. في ذلك الوقت كان والداي يعيشان في الأهواز، على بعد سبعين ميلًا شرق الخط الأمامي. تعد الأهواز منطقة حضرية واسعة وشاسعة إذ تضم أكثر من مليون شخص، وتشتهر بنهر "كارون" والنخيل والأراضي الخصبة، واللهب الذي يخرج من آبار النفط المحترقة. بعد عدة أشهر من الحرب، أصبح من الواضح أن صدام كان يسعى لضم ولاية خوزستان وليس أقل من ذلك، وأن جميع القوى الغربية العظمى كانت تدعمه، بدأ الأهوازيون بالرحيل ، احتشد الجيران والأصدقاء في السيارات وملأوا الطريق، وقد أصبحوا في عشية وضحاها من عائلات نفط الجنوب الميسورة إلى نازحين داخليين. لم ينزح والداي.. حيث كان أبي يشغل منصبًا حساسًا في شركة النفط، بينما كانت أمي ممرضة.. إن قيمة مهامهم ورغبتهم في القتال من أجل الوطن إلى جانب الاستقبال المخيب للآمال للاجئين النازحين في أماكن مختلفة من البلاد، أجبرتهم على البقاء هناك خلال الحرب. استمرت الحرب، دون انقطاع، لمدة ثماني سنوات. وقد أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص، وأحرقت مساحات شاسعة من الأراضي على جانبي الحدود أنا الآن في الثامنة والثلاثين. الحرب التي جعلتني ما أنا عليه الآن انتهت منذ ثلاثين عاما. على كل حال، إنني لا أتحدث عنها كثيرا على الرغم من أن أظافر ذهني كثيرا ما تنزلق نحو حقيبة الذكريات التي أحملها. مثل العديد من الأشخاص المصابين باضطرابات ما بعد الصدمة. أتذكر حياتي وأنا في السادسة من عمري وأفكر، بالتأكيد إنه لأمر مرعبٌ أن تحتفظ ذاكرتك بمشهد الرجل الذي ينظر إلى الثقب الذي أحدثته الشظية في بطنه، قبل أن يسقط على الأرض. نعم، كان أمرًا مروعًا أن تضطر للاختباء برفقة خمسمائة من الأطفال الآخرين في مخبأ خرساني صغير، بدون تهوية لساعات حتى تنتهي الطائرات العراقية من قصفها. إنه من المحزن حقًا أن تفكّر في تعقّب السنين السبع الأولى التي قضيتها حول الأنقاض، تقوم بجمع قطع الشظايا والسترات الواقية من الرصاص، لتوسيع المجموعة التي امتلكتها مما سيثير غيرة وحسد أطفال الحي الآخرين. لكني أقول لنفسي: أنظر إلى العراقيين والأفغان. لقد عاشوا بهذه الطريقة لأجيال. بينما توسّعت سنواتك الثماني من الحرب أكثر من اللازم، وتضاعفت لديك كمية الرعب مرارًا، ورغم هذا لن تقترب حتى من تجربة المواطن العراقي العادي. بل سيضحك العراقي العادي مما تسميه أنت "ذكريات الحرب" انتقلت إلى الولايات المتحدة في بداية عام 2016، قبل عدة أشهر من الانتخابات، بجواز سفر إيراني، وهذا يفاقم الدلالة على فظاعة التوقيت. بعد أكثر من عام من الخوف والإجهاد، تمكنت من الحصول على تأشيرة تسمح لي بالبقاء، والعمل هنا لبضع سنوات، ولكن بسبب حظر السفر، سيكون أمرًا خطيرا بالنسبة لي أن أغادر الولايات المتحدة، كما أن عائلتي لن تستطيع المجيء إلى هنا لزيارتي. حياة كهذه بدأت بأخذ مجراها الآن. كتلة من الخوف استقرت بداخلي، كنتُ أحملها كل يوم وأنا أعبر مترو أنفاق بروكلين أو و أنا أمر بجوار أبراج مانهاتن القاسية، وأمام ملاعب كرة السلة في هارلم. غيّر هذا الخوف ذهني تماما.. وبما أنني إنسانٌ مثل أي إنسانٍ آخر، بمجرد أن تمنعني الظروف عن شيء ما، تتعلق رغبتي بهذا الشيء أكثر، وهذا يعني أنه بفضل دونالد ترامب، أصبحت أفكر بحياتي في إيران أكثر من أيّ وقتٍ مضى وتحديدا منذ عام 2011، عندما غادرت البلد إن ما يدهشني شخصيا بشأن تفكيري بإيران، أنني نادرًا ما أتذكر حياتي في طهران، المدينة التي أمضيت فيها فترة بلوغي كلها، وكتبتُ كتبي فيها، إنني عوضا عن ذلك أذكر "أهواز"، طفولتي، الحرب، أفكر في النخيل الذي أُجتزّ رأسه، والنهر المتخم بالنفط.. أتذكر رائحة أسماك النهر الميت، والبارود، والصرف الصحي. وبعد ثلاثين عاما من الصمت، في أبريل 2018، بدأت في تدوين ذكرياتي إن الأشياء الوحيدة التي يمكن أن تمنحها لنا الحرب تكمن في النجاة أو الموت. لا يمكن لها أن تخبئ نهاية سعيدة للناجين منها.. ليس لها نهاية. ترسخ الحرب نفسها في أعمق أجزاء الأدمغة الناجية، وتسمم بقية حياتهم. إنها سرطان عقلي يؤثر على كل خلية في الجسم. لقد عشتُ حياة مصابةً بهذا الداء. وحتى الحفاظ على الهدوء لن يجعل الحرب تختفي.. إنني لا أؤمن بالحديث عنها مما قد يجعل المرء عرضة للتعاطف المفرط وربما عدم التصديق إنما.. بين الصمت والكلام يكمن فعل الكتابة. وهذا هو المكان الذي أسعى لأن أجد علاجي فيه 1 كنتُ قد بلغتُ الخامسة، أو أكبر قليلا.. ولكنني حتمًا لم أكن أصغر من ذلك.. لأنهُ سُمِحَ لي بالجلوس في مقعد الراكب، كنت أرتدي سروال جينزٍ جديد اشترته لي أمي في عيد ميلادي. كان أبي يقود السيارة في شارع واسع في "أهواز". لا أعرف من أين كنا قادمين.. لكننا حتمًا كنا في طريقنا إلى المنزل. فجأة وفي مكان ما من الطريق، ارتجت السيارة. كان الأمر كما لو أنّ يدا عملاقة من السماء صفعت السيارة بقوة وانسحبتْ. شعرتُ بالهلع.. لكن أبي لم يشعر صرخ وقام بشتم المكابح! لم أسمع أبي يصرخ من قبل. كنتُ مصدوما كما لو أن إحدى لعبي تحدثت إلي. فتح أبي الباب وقام بسحبي من فوق ناقل السرعة إلى مقعده، ثم أخرجني من السيارة، وألقى بي في العشب، ثم ألقى بنفسه فوقي شيء ما كان يعوي في السماء. ظل الطائرة مر كطلقة رصاصة. انفجار خلفنا.. وآخر أمامنا. الانفجار الثاني كان قريبا جدا، اهتزت الأرض بشدة، انتقل الاهتزاز لجسدي واستنفرتْ كل أعصابي، ارتفع الغبار وتناثرت الشظايا المعدنية الساخنة. هناك أشياء تتساقط على ظهر أبي أسمع صوتها المكبوت. بينما أبي يحافظ على سكونه. ومن فتحة أسفل إبط أبي رأيت سحابة ترتفع وتتدفق على نفسها يتوسطها اللون البرتقالي المرعب بينما حوافها كانت رماديةً. انكمش أبي على نفسه بشدة.. وخزتني عظامه في جميع أرجاء جسدي. حاولت أن أفتح فمي كي أصرخ لكنني ابتلعت الغبار الذي كان يملأ المكان. هرع الناس من حولنا ورفعوا أبي وحملوني إلى السيارة.. تحركت السيارة رويدا رويدا.. مررنا في طريقنا إلى المنزل بأنقاضٍ ساخنة يبدو أنها كانت قد استهدفت للتو.. لذلك يتحلق حولها الناس. واصلنا سيرنا إلى المنزل ولم نتبادل كلمة واحدة. من بين الأفكار التي كانت تدور في ذهني حينها، اتساخ سروالي الجينز الجديد، سيجعلني هذا عرضة لتوبيخ أمي، لقد كان خطأ أبي، ولكن أمي ستلومني على كل حال، وهذا ما جعلني أكره أبي 2 صبيان، لهما ذات الطول وذات الحجم، ذات الوجه، كانا يرتديان ذات الملابس، ويذهبان لكل مكان سويةً. بعد اثنين وثلاثين عاما أتذكر وجههما كما لو أنني رأيتهما البارحة. ربما لأنهما كانا أول توأمٍ رأيتهما في حياتي، أو لأن وجههما عصي على النسيان. كما حدث للبقية. لقد أحرقت شمس خوزستان الوحشية بشرتهم بمجرد أن كبروا للدرجة التي تكفي لأن يلعبوا كرة القدم في الشارع.. لا كما حدث للبقية. لقد كانت أعينهم خضراء تضيء مثل قطع الزمرد تحت جباههم الطويلة ورؤوسهم الحليقة ففي إحدى الأيام غاب الصبيان عن المدرسة. ولم يحضرا في اليوم التالي كذلك، في اليوم الثالث من غيابهما. لم تشرح المعلمة الدرس، جاءتنا والدموع تملأ عينيها، وأخبرتنا أنه قبل يومين فقدَ التوأم حياتهما إثر غارة جوية. لم يكن الأمر صادمًا لنا. لقد حدث لجميعنا أمر مشابه من قبل، في إحدى الأيام تكون تلعب كرة القدم في الفناء مع طفل ما، وفي اليوم التالي يكون الطفل ميتاً. تقاتل في إحدى الأيام في الخطوط الأمامية مع طفل ما، وفي اليوم التالي يكون الطفل ميتًا. عندما تكون صغيرا لا تسمي ما يحدث بالمأساة، إنما ترى ببساطة أن هذا هو الواقع في اليوم الرابع من رحيلهما. تم وضع باقتين من الزهور على مقعديهما، وكانت كل باقة تحتوي على البابونج. أتذكر ذلك لأنني شاهدتُ الزهور بقدر ما شاهدت الأخوين. في اليوم التالي، اصفرّتْ البتلات من الحواف وتحولت سيقانها إلى اللون البني . أردتُ حينها أن ألتقط الأزهار وأضعها في الماء، لكنني لم أستطع. كانت الباقات مقدسة للحد الذي لم أستطع فيه مساسها. لقد قضى الشقيقان نحبهما في غمضة عين، لكن الزهور كانت تموت ببطء. كانت الزهور تعلمني أنه في الحقيقة ما من موت سهل 3 كنا مطالبين في المدرسة على إبقاء شعرنا قصيرًا. تم فرض ذلك علينا كإحدى قواعد النظافة في زمن الحرب، والتي أصبحت تطبق بشدة لأن المناخ العسكري استولى على المدينة بأكملها، وأرادت السلطة تحويل كل مساحة فيها إلى حصن. في كل صباح، كان مدير المدرسة يقطع الفناء ويخترق صفوف الطلاب، ممررًا أصابعه على رؤوس الطلاب الذين يبدو شعرهم طويلا بعض الشيء، وما إن يعلق الشعر بأصابعه حتى يرسل الطفل عائدًا إلى منزله. اعتاد شعري أن ينمو بسرعة. مما كان يجعلني أحتاج لقصه بانتظام آخر خميس من كل شهر، إذ يقوم أبي بتركي في صالون حلاقة الحاج علي بالقرب من "مزار" ويعود لي بعد ساعة من تركه لي. مرة نسينا أن نذهب في موعدنا الشهري، تفحصت شعري في الليل فوجدت أن شعري قد نبت أكثر من اللازم. فقضيت إثر ذلك صباح الجمعة بكاءً، وغضبتُ من والديّ لأنهما يتهربان من أداء واجبهما. حاولا التخفيف من روعي بقولهما إنهما سيذهبان معي إلى المدرسة. لم يجدِ الامر معهما وأسفر إلحاحي على خروجنا أنا وأبي إلى شوارع الأهواز بحثاً عن صالون حلاقة يفتح أبوابه بعد ظهر الجمعة. نجحنا بالعثور على أحدهم في وسط المدينة، كان شابا بالكاد قد أتم العشرين من عمره قطعنا اندماجه بمشاهدة مباراة لكرة القدم كانت تبث على شاشة التلفاز حينها. شرح أبي له الوضع، وقال له الشاب أن نصف ساعة تكفي ليعود لي ويجدني جاهزًا. جلست على المقعد. طوق الشاب عنقي بتلك القطعة التي تقي ملابسي من الشعر المتساقط وأسرع نحو ماكينة الحلاقة في أي مدرسة تدرس ؟ .. سألني- قلت: " أرفاند" وأنت في أي مدرسة ؟ سمى مكانا لم أعد أتذكره مدرسة ثانوية ؟.. قلت !لم أذهب إلى المدرسة الثانوية بعد.. لقد ذهبت إلى الجبهة- أووه رائع جدا- لماذا تعتقد أنه رائع ؟- - لا أعرف .. ذهبتَ إلى الجبهة وحاربتَ العراقيين - أنت تحب الجنود ؟ أحبهم- :أوقف ماكينة الحلاقة وكان يحدق في المرآة. وقال "سأقول لك شيئا لا يجب عليك نسيانه أبدا.. حسنا؟ " حسنا- . كل من يعود على قيد الحياة من هذه الحرب اللعينة ابن قحبة بما فيهم أنا- !!تبدلت جلستي والتفت إليه قائلا: أنت تعرف ماذا تعني هذه العبارة "ابن قحبة" ؟ إنها كلمة سيئة للغاية إنها أسوأ شيء يمكن أن تقوله لأي شخص. لكن الحقيقة هي أنك إن لم تقضِ على ابن قحبة منهم فسوف- .تُقتل إذا نجوت في الحرب فاعلم أن هذا حدث لأن شخصًا آخر قد مات بدلا عنك. هل تفهم ؟ .قلت نعم. وتظاهرت بأنني فهمت كلامه. قام بتشغيل ماكينة الحلاقة وواصل حديثه: " مرة كان علي الذهاب في مهمة استطلاعية سأضطر فيها للسباحة عبر النهر إلى العراق والتحقق من موقعين، وعليّ أن أعود سباحة مرة أخرى. كانت احتمالية قتلي تصل إلى 99% كنتُ أعرف ذلك، وكان قائدنا الأعلى يعرف ذلك، وكان قادته يعرفون ذلك، ولم يهتم بذلك أحد. في ذات الوقت كان يشاركني الخندق رجل من قرية "سوسانجيرد" . تظاهرت أمامه بأنني مريض وطلبت منه أن يقوم بالمهمة نيابة عني. لبى المهمة فورا . كان رجلًا مسكينًا لا يعرف أي شيء ، ويثق بالجميع. لم يعتقد أبدًا أن الجيش سيرسلهُ في مهمة على الأرجح أنه سيُقتلُ فيها. سبح الرجل عبر النهر ليلتها و قتله العراقيون. هل فهمت ما أقصد ؟ أومأت برأسي- . أنا على قيد الحياة هنا وأحلق رأسك لأنني ابن القحبة الذي عاد من الحرب وقُتل رجل آخر مكانه- 4 كان قد التحق بالمدرسة في وقت مبكر من العام الدراسي، لكنني لم أعرفه عندما انطلق جرس الإنذار. رغم أننا اشتركنا ذات الطاولة في الفصل الدراسي، كانت الطاولة عبارة عن خشب ضيق وطويل مصممٍ لطفلين. جلست بجانب الممر، وجلس بمحاذاة النافذة. كانت مكبرات الصوت مثبتة في جمعية أنحاء المدرسة، وفي كل مرة تظهر فيها الطائرات العراقية يرتفع صوت التنبيه ويستحيل الصوت كما لو أنه كان قادمًا من رأسي. فعلنا ذات الفعل مئات المرات: ننزل تحت الطاولات، نجلس القرفصاء، نضع أيدينا على ركبتينا، نمسك براحتينا فوق الأذنين، وننتظر. غالبا كنا نضطر للبقاء في هذا الوضعية الغريبة لمدة تتراوح بين عشرة وخمس عشرة دقيقة، ثم ينطلق الإنذار الأبيض، يعود الطلاب إلى الخلف، ويتبادلون النكات ويصرخون. في ذلك اليوم، وبعد وقت قصير من تحطم جرس الإنذار الأحمر، سمعنا الطائرات مجددًا، ثم انتبهنا لذلك الصوت الذي يسبق وقع الغارة. حط الصاروخ في الصف، أصابتنا الموجة التي يسببها انفجار الصاروخ، البعض كان يصرخ والبعض الآخر كان يبكي، كنت مصدوما من ردات الفعل كذلك كان زميلي الجديد.. صوت آخر، انفجار آخر. سقطت الجدارت والسقف، وتناثر زجاج النوافذ. "يجب أن أخرج " قال زميلي الجديد. قلت له: "لابد أنك فقدت عقلك" يجب أن أخرج. ودفعني ثم دفعته كذلك للوراء- مرة أخرى صوت الطائرة المرعب، كانت أقرب هذه المرة، لم يحدث شيء . كان كلانا يجلس في انتظار الإنذار الأبيض عندما لاحظت البلل، تيار ضيق ينسل بين فتحات البلاط وها قد بدأ في التراكم حول حذائي. إنها رائحة بول طازج، تابعتُ التيار ووجدتُ قطرات تتسرب من سرواله، وعيناهُ يملئوهما الدمع تحدقان بي في الظلام

لم تكن ردة فعلي للوهلة الأولى نابعةً من الشفقة عليه. إنما شعرت باشمئزازٍ تجاهه وانتابتني رغبة في أن أكسر عنقه. تم إطلاق الإنذار الأبيض، خرج الطلاب من مخابئهم، هادئين وخائفين، لم يكونوا في مزاج جيد للمزاح بعد كل ما حدث، كسرت زجاج الصمت وصرختُ : " انظروا لقد بلل نفسه" كنت أشير إليه وأنا أصرخ. شعرت بالحقد الذي حملته نظراته حينها دون أن أشاهدهُ. ضحك الجميع وانتشر الأمر في جميع أنحاء الصف. جاء المعلم ووبخني وقام بالتربيت على الصبي. بعد ذلك لم أره بعدها إطلاقا.. أو رأيته لكنني لم أتعرف وعليه 5 في 20 يوليو من العام 1987، وقع الجانب الإيراني والجانب العراقي على القرار 598 وانتهت الحرب. شاهدت الخبر على التلفاز مع عائلتي، وشعرتُ بالسعادة لأنهم كانوا سعيدين، لكنني لا أستطيع أن أقول أنني كنت كذلك تماما. "نهاية الحرب" لم يكن الأمر منطقيا بالنسبة لي. هل يعني هذا أننا لن نسمع إنذارات حمراء بعد الآن ؟ هل يعني هذا أننا سنذهب إلى المدرسة ونعود إلى البيت دون أي خطر؟ بدا ذلك لي مملا، لم أكن واثقا ما إذا كنت أريد تلك الحياة الجديدة. بشكل أو بآخر. إن نشأتك في الحرب تحولك إلى ذلك الصبي الصغير في غرفة إيما دونوغيو[1] . العالم الخارجي الذي لا توجد فيه طائرات حربية من الدول المعادية تكسر حاجز الصوت فوق الرؤوس موجود فقط على شاشات التلفزيون. كنت أعرف ذلك على أنه حقيقة الأشخاص الذين لم يتحدثوا لغتي . عندما تم إطفاء التلفاز، توجهت نحو سريري، وتساءلت عما سيكون عليه العالم في الصباح التالي. عندما فتحت عيني مرة أخرى. كانت الشمس قد أشرقت فعلًا. إن العيش بالقرب من الخطوط الأمامية للحرب، تعني أنك لن تستطيع النوم لليلة كاملة. شيء ما سيقطع نومك دائما. كل ليلة لمدة ثمانية أعوام كنت أستيقظ فيها على الأقل عدة مرات قبل الصباح. كل هذا بالإضافة إلى الإزعاج في الخارج، كانت الكهرباء أيضا تنقطع في أغلب الأحيان، وكانت معظم الليالي إما باردة جدا أو حارة جدا. كان الطقس لا يسمح لنا بالنوم. في الليلة الأولى من السلام. نمت حتى الصباح، لا حشرجة بنادق، لا انذارات حمراء، لا حرارة شديدة أو بردٍ شديد, أغمضتُ عيني على طرف من الليل وفتحتها على الطرف الآخر. خرجت من السرير ونظرتُ من النافذة. أتذكر الآن ذلك الوهج الغير عادي لكل شيء في الفناء. انعكاس أشعة الشمس في الصباح على سلاسل الأرجوحة. الأقحوانات والنرجس الذي يتمايل في العشب. صفاء شجرة الأوكالبتوس في الشارع. لقد وجدت السلام غريبا ومسليا 6 في يوم شتاء دافئ بعد توقيع السلام، وأثناء حرب الخليج الأولى في عام 1991، كنت جالسًا بجوار النافذة في الصف. أحدق في السماء الزرقاء الصافية. أعد العد التنازلي لأتمكن من المغادرة. كنت حينها في الحادية عشر من العمر. فجأة أصبحت السماء الصافية قاتمة. كنت أشاهد تحول الزرقة إلى قتامة شديدة، اكتشفت بعض السحب السوداء التي تتدفق نحو المدينة. ظل المعلم مترددا على السبورة ويتحدث محاولا تجاهل الأمر، حتى أصبح من المستحيل تجاهل الطقس. في البداية بدتْ وكأنها عاصفة، لكن الظلام استمر في التكاثف، أصبح منظر السماء وكأننا في الليل إلا أننا كنا في منتصف النهار. أسقط المعلم الطباشير وغادر الفصل. تبعناه.. كما غادر أيضا الطلاب والمعلمون الآخرون صفوفهم وتجمعوا في الخارج تحت السقيفة إنها نهاية العالم " همس بذلك صبي يقف خلفي. صدقته، بدأت بالتفكير في ما فعلته في حياتي من أمور جيدة وأخرى سيئة لمحاولة معرفة أين سينتهي بي الأمر إذا كان اليوم حقا نهاية العالم. قررتُ أن من نشأ في الحرب فإن ذلك سيكون عقابًا كافيًا له عن أي خطيئة ارتكبها. أمطرت السماء .. بدأتْ قطرات المطر الثقيلة تقع على السقيفة التي تحمينا. سرعان ما أصبح وابلا من دون توقف. اخترقت خطوط سميكة من المطر السقيفة إلى الفناء. امتلأ الهواء برائحة غريبة. جمدتنا صرخة المدير في أمكنتنا.. صاح في الميكرفون . " ابقوا تحت السقيفة.. إنه ليس مطر .. هذا نفط"- كان الصمت الجماعي مفاجئا وثقيلا جدا، لدرجة أنني استطعت أن أسمع دقات قلب الذي كان قد أعلن عن نهاية العالم. نزل المطر النفطي على شكل خيوط، كل نقطة تقع على الأرض كانت تعلق على هيئة ذيل طويلة.. الآلاف منها شكلت ستائر نصف شفافة متوازية غطت العالم من حولنا . تساقط المطر النفطي على الأهواز في فبراير 1991 في ذروة حرب الخليج، بعد عدة ساعات من قصف الطائرات العراقية لبحيرات نفطية هائلة في الكويت، بدأ الانفجار على هيئة غيوم سوداء، ازدحمت في السماء، حملتها الرياح القوية باتجاه الشمال وعلى امتداد الخليج. كانت السحب تقوم بإمطار كل المدن وقرى الجنوب بالمطر النفطي الأسود. ظلت الغيوم تمطر على مدينتنا لمدة خمسة عشرة دقيقة، ثم اتجهتْ باتجاه الشمال. يومها عندما غادرت المدرسة، كان من الصعب التعرف على ملامح المدينة، الأسفلت متلألئ بالنفط الأسود، السيارات واجهت بعضها البعض في مفترق الطرق، الناس امتلأوا في الساحات، وعلى الأرصفة، في الشارع، مرعوبين ومحتقنين.. يحدقون بصمت. كانت الأشجار أشبه بجنود قتلى تفحموا وهم على أقدامهم. القطط الضالة الميتة في كل مكان، إلى جوار الضفادع المجففة ،والصراصير المقلوبة، كما أن جثث الحمام والعصافير تساقطت كذلك من السماء ****** ما الذي يدفعني للكتابة ؟ أنا أعيش في أمريكا، حيث الجميع قلقون من الحرب. في عام 2016.. قرر جزء كبير من سكان الولايات المتحدة تسليم السلطة إلى رجل مفتون بزر القنبلة النووية في مكتبه. صحيح أن أسلافه لم يكونوا مسالمين بشكل خاص، لكن هذا المتهور المدمن لتويتر صاحب الأنا الجريحة يشكل تهديدا مختلفا للعالم. يتفاقم خوفي المتجدد من الحرب عندما ألتقي بأصدقائي الأمريكيين. إنهم ضد فكرة الحرب، لكنهم لا يفهمون ما هي الحرب في الواقع. الحرب بالنسبة للعديد من الأشخاص ذوي النوايا الحسنة الذين أعرفهم، هي مأساة مجردة. يكفي أن تلتقوا هؤلاء الذين عايشتهم لتفهموا ماذا أعني الأهواز اليوم هي موت لعين. إن مكان Blade Runner 2049ولادتي اليوم يشبه المدينة المهجورة في حيث يذهب ريان جوسلينج لمقابلة هاريسون فورد. لم تقف الأهواز على قدميها بعد الحرب. إن عدم كفاءة الحكومات المتعاقبة، بالإضافة إلى الآثار الكارثية للجفاف في العالم جعلت السنوات الماضية شديدة جدا، وغير قابلة للعيش في الأهواز. لقد أصبح نهر كارون، وهو النهر الواسع المتعرج عبر الأهواز لآلاف السنين، النهر الذي أبحرت فوقه ناقلات النفط منذ خمسين عاما أشبه بغدير. تخيلوا أن يجف النهر الشرقي في مدينة نيويورك، وأن يتدحرج أهالي نيويورك على رصيف ميناء ويليامزبرس ويعبرون أرضًا جرداء إلى الجانب الشرقي الأدنى. هكذا يقضي موت كارون على الأهواز. السماء الزرقاء هي شيء من الماضي. تقريبا كل الأراضي الرطبة والبحيرات التي تحيط بالمدينة جفّتْ. كل رياح تمر تحمل معها كميات كبيرة من الغبار، والتي تغطي كل شيء تمر عليه بما أن مسقط رأسي تشوه إلى حد كبير، فإن ماضيي كذلك أصبح غير مستقر بشكل أكبر. إنني أكتب لتقديم مساهمة، مهما كانت صغيرة ومثيرة للشفقة، لإنقاذ المكان. ليس من قبيل المصادفة أنني اخترت أن أكسر الصمت في وقت كان فيه الناس في كل مكان يفعلون نفس الشيء. في أعقاب حركة #MeToo ، قرأت كتابا في الـ"نيويوركر" حول النساء اللواتي ناضلن للتقدم والإفصاح عن قصصهن. إنهن لم يردن أن يتم اعتبارهن كضحايا. كانوا يخجلون مما حدث لهم. كانوا يخشون من انتقام الذكور الجناة. عندما كنت أقرأ عنهم. قرعت صناديق الحكايات القابعة في رأسي : ألا أرفض التحدث عن الحرب لأنني أكره إيذاء ذاتي؟ هل أنا حرجٌ من طفولتي، قلقٌ من أنه إذا عرف الناس عن هذا الأمر، أن يعتقدوا أنني مضطرب بشكل لا يمكن إصلاحه؟ هل أخاف من مسعري الحرب؟ كانت أوجه التشابه أكثر من أن أرفضها،وأصبح الاستنتاج الذي لم أجد أي مفر منه: هو أنني انتُهكتُ أيضا.. لقد انتُهكتْ طفولتي. وقد تم انتهاك طفولة جميع الأطفال الذين نشأوا في مناطق الحرب، في أي مكان، وفي أي زمان. إن لحظة #MeToo هي لحظتي أيضا. فالمتحرشون الجنسيون، الرجال الأقوياء، يمزقون ذات القطعة من القماش التي يمزقها أرباب الحروب ومكرسوها لقد فُتحتْ لنا مساحة للحديث عن قصصنا دون خوف من التعرض للظلم أو العار. ويجب علينا أن نستغلها قبل أن ننزلق في جنون عالم مصابٍ بتشتت الانتباه ي1- يقصد رواية الغرفة للكاتبة الإيرلندية الكندية إيما دونوغيو إذ تُروَى القصة في الرواية من منظور طفل ذي خمس سنوات يدعى جاك كان مأسورًا برفقة والدته في غرفة صغيرة


Follow Me
  • YouTube Social  Icon
  • Facebook Social Icon
  • Twitter Social Icon
  • Grey Google+ Icon
لقد نصبتُ فخًا للحياة .. عندما قررت أن أكتب 
نافذة أخرى 
آخرإصدارات الكاتب 
غرف تنتمي لأصحابها غلاف.jpg
Full Cover.png
  • Facebook Social Icon
  • Black Twitter Icon
  • Grey Google+ Icon
bottom of page