top of page

شظايا طفولة مزقتها الحرب

  • عامر أحمدي أريان- ترجمة عبدالله عبيد
  • 5 أكتوبر 2018
  • 12 دقيقة قراءة

قضيت الثماني السنوات الأولى من حياتي في منطقة حرب. ثماني سنوات من الضجيج الذي يصم الآذان: الأصوات المتقطعة لمضادات الطائرات، أزيز الطائرات الحربية، ورصاصات الكلاشينكوف، التعاقب المتواصل لقذائف الهاون. ثماني سنواتٍ من الأضواء المسببة للعمى. سحابة النار البرتقالية الداكنة التي تنشأ بعد انحسار انفجار ما، الخيط الأحمر الرقيق الناشئ من إطلاق النار الكثيف من فوهات البنادق، .السجائر المحترقة التي تضيء الشوارع كالمنارات في الليالي المعتمة في سبتمبر 1980، بعد أيام قليلة من عيد ميلادي الأول، اندلعت الحرب بين إيران والعراق. في ذلك الوقت كان والداي يعيشان في الأهواز، على بعد سبعين ميلًا شرق الخط الأمامي. تعد الأهواز منطقة حضرية واسعة وشاسعة إذ تضم أكثر من مليون شخص، وتشتهر بنهر "كارون" والنخيل والأراضي الخصبة، واللهب الذي يخرج من آبار النفط المحترقة. بعد عدة أشهر من الحرب، أصبح من الواضح أن صدام كان يسعى لضم ولاية خوزستان وليس أقل من ذلك، وأن جميع القوى الغربية العظمى كانت تدعمه، بدأ الأهوازيون بالرحيل ، احتشد الجيران والأصدقاء في السيارات وملأوا الطريق، وقد أصبحوا في عشية وضحاها من عائلات نفط الجنوب الميسورة إلى نازحين داخليين. لم ينزح والداي.. حيث كان أبي يشغل منصبًا حساسًا في شركة النفط، بينما كانت أمي ممرضة.. إن قيمة مهامهم ورغبتهم في القتال من أجل الوطن إلى جانب الاستقبال المخيب للآمال للاجئين النازحين في أماكن مختلفة من البلاد، أجبرتهم على البقاء هناك خلال الحرب. استمرت الحرب، دون انقطاع، لمدة ثماني سنوات. وقد أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص، وأحرقت مساحات شاسعة من الأراضي على جانبي الحدود أنا الآن في الثامنة والثلاثين. الحرب التي جعلتني ما أنا عليه الآن انتهت منذ ثلاثين عاما. على كل حال، إنني لا أتحدث عنها كثيرا على الرغم من أن أظافر ذهني كثيرا ما تنزلق نحو حقيبة الذكريات التي أحملها. مثل العديد من الأشخاص المصابين باضطرابات ما بعد الصدمة. أتذكر حياتي وأنا في السادسة من عمري وأفكر، بالتأكيد إنه لأمر مرعبٌ أن تحتفظ ذاكرتك بمشهد الرجل الذي ينظر إلى الثقب الذي أحدثته الشظية في بطنه، قبل أن يسقط على الأرض. نعم، كان أمرًا مروعًا أن تضطر للاختباء برفقة خمسمائة من الأطفال الآخرين في مخبأ خرساني صغير، بدون تهوية لساعات حتى تنتهي الطائرات العراقية من قصفها. إنه من المحزن حقًا أن تفكّر في تعقّب السنين السبع الأولى التي قضيتها حول الأنقاض، تقوم بجمع قطع الشظايا والسترات الواقية من الرصاص، لتوسيع المجموعة التي امتلكتها مما سيثير غيرة وحسد أطفال الحي الآخرين. لكني أقول لنفسي: أنظر إلى العراقيين والأفغان. لقد عاشوا بهذه الطريقة لأجيال. بينما توسّعت سنواتك الثماني من الحرب أكثر من اللازم، وتضاعفت لديك كمية الرعب مرارًا، ورغم هذا لن تقترب حتى من تجربة المواطن العراقي العادي. بل سيضحك العراقي العادي مما تسميه أنت "ذكريات الحرب" انتقلت إلى الولايات المتحدة في بداية عام 2016، قبل عدة أشهر من الانتخابات، بجواز سفر إيراني، وهذا يفاقم الدلالة على فظاعة التوقيت. بعد أكثر من عام من الخوف والإجهاد، تمكنت من الحصول على تأشيرة تسمح لي بالبقاء، والعمل هنا لبضع سنوات، ولكن بسبب حظر السفر، سيكون أمرًا خطيرا بالنسبة لي أن أغادر الولايات المتحدة، كما أن عائلتي لن تستطيع المجيء إلى هنا لزيارتي. حياة كهذه بدأت بأخذ مجراها الآن. كتلة من الخوف استقرت بداخلي، كنتُ أحملها كل يوم وأنا أعبر مترو أنفاق بروكلين أو و أنا أمر بجوار أبراج مانهاتن القاسية، وأمام ملاعب كرة السلة في هارلم. غيّر هذا الخوف ذهني تماما.. وبما أنني إنسانٌ مثل أي إنسانٍ آخر، بمجرد أن تمنعني الظروف عن شيء ما، تتعلق رغبتي بهذا الشيء أكثر، وهذا يعني أنه بفضل دونالد ترامب، أصبحت أفكر بحياتي في إيران أكثر من أيّ وقتٍ مضى وتحديدا منذ عام 2011، عندما غادرت البلد إن ما يدهشني شخصيا بشأن تفكيري بإيران، أنني نادرًا ما أتذكر حياتي في طهران، المدينة التي أمضيت فيها فترة بلوغي كلها، وكتبتُ كتبي فيها، إنني عوضا عن ذلك أذكر "أهواز"، طفولتي، الحرب، أفكر في النخيل الذي أُجتزّ رأسه، والنهر المتخم بالنفط.. أتذكر رائحة أسماك النهر الميت، والبارود، والصرف الصحي. وبعد ثلاثين عاما من الصمت، في أبريل 2018، بدأت في تدوين ذكرياتي إن الأشياء الوحيدة التي يمكن أن تمنحها لنا الحرب تكمن في النجاة أو الموت. لا يمكن لها أن تخبئ نهاية سعيدة للناجين منها.. ليس لها نهاية. ترسخ الحرب نفسها في أعمق أجزاء الأدمغة الناجية، وتسمم بقية حياتهم. إنها سرطان عقلي يؤثر على كل خلية في الجسم. لقد عشتُ حياة مصابةً بهذا الداء. وحتى الحفاظ على الهدوء لن يجعل الحرب تختفي.. إنني لا أؤمن بالحديث عنها مما قد يجعل المرء عرضة للتعاطف المفرط وربما عدم التصديق إنما.. بين الصمت والكلام يكمن فعل الكتابة. وهذا هو المكان الذي أسعى لأن أجد علاجي فيه 1 كنتُ قد بلغتُ الخامسة، أو أكبر قليلا.. ولكنني حتمًا لم أكن أصغر من ذلك.. لأنهُ سُمِحَ لي بالجلوس في مقعد الراكب، كنت أرتدي سروال جينزٍ جديد اشترته لي أمي في عيد ميلادي. كان أبي يقود السيارة في شارع واسع في "أهواز". لا أعرف من أين كنا قادمين.. لكننا حتمًا كنا في طريقنا إلى المنزل. فجأة وفي مكان ما من الطريق، ارتجت السيارة. كان الأمر كما لو أنّ يدا عملاقة من السماء صفعت السيارة بقوة وانسحبتْ. شعرتُ بالهلع.. لكن أبي لم يشعر صرخ وقام بشتم المكابح! لم أسمع أبي يصرخ من قبل. كنتُ مصدوما كما لو أن إحدى لعبي تحدثت إلي. فتح أبي الباب وقام بسحبي من فوق ناقل السرعة إلى مقعده، ثم أخرجني من السيارة، وألقى بي في العشب، ثم ألقى بنفسه فوقي شيء ما كان يعوي في السماء. ظل الطائرة مر كطلقة رصاصة. انفجار خلفنا.. وآخر أمامنا. الانفجار الثاني كان قريبا جدا، اهتزت الأرض بشدة، انتقل الاهتزاز لجسدي واستنفرتْ كل أعصابي، ارتفع الغبار وتناثرت الشظايا المعدنية الساخنة. هناك أشياء تتساقط على ظهر أبي أسمع صوتها المكبوت. بينما أبي يحافظ على سكونه. ومن فتحة أسفل إبط أبي رأيت سحابة ترتفع وتتدفق على نفسها يتوسطها اللون البرتقالي المرعب بينما حوافها كانت رماديةً. انكمش أبي على نفسه بشدة.. وخزتني عظامه في جميع أرجاء جسدي. حاولت أن أفتح فمي كي أصرخ لكنني ابتلعت الغبار الذي كان يملأ المكان. هرع الناس من حولنا ورفعوا أبي وحملوني إلى السيارة.. تحركت السيارة رويدا رويدا.. مررنا في طريقنا إلى المنزل بأنقاضٍ ساخنة يبدو أنها كانت قد استهدفت للتو.. لذلك يتحلق حولها الناس. واصلنا سيرنا إلى المنزل ولم نتبادل كلمة واحدة. من بين الأفكار التي كانت تدور في ذهني حينها، اتساخ سروالي الجينز الجديد، سيجعلني هذا عرضة لتوبيخ أمي، لقد كان خطأ أبي، ولكن أمي ستلومني على كل حال، وهذا ما جعلني أكره أبي 2 صبيان، لهما ذات الطول وذات الحجم، ذات الوجه، كانا يرتديان ذات الملابس، ويذهبان لكل مكان سويةً. بعد اثنين وثلاثين عاما أتذكر وجههما كما لو أنني رأيتهما البارحة. ربما لأنهما كانا أول توأمٍ رأيتهما في حياتي، أو لأن وجههما عصي على النسيان. كما حدث للبقية. لقد أحرقت شمس خوزستان الوحشية بشرتهم بمجرد أن كبروا للدرجة التي تكفي لأن يلعبوا كرة القدم في الشارع.. لا كما حدث للبقية. لقد كانت أعينهم خضراء تضيء مثل قطع الزمرد تحت جباههم الطويلة ورؤوسهم الحليقة ففي إحدى الأيام غاب الصبيان عن المدرسة. ولم يحضرا في اليوم التالي كذلك، في اليوم الثالث من غيابهما. لم تشرح المعلمة الدرس، جاءتنا والدموع تملأ عينيها، وأخبرتنا أنه قبل يومين فقدَ التوأم حياتهما إثر غارة جوية. لم يكن الأمر صادمًا لنا. لقد حدث لجميعنا أمر مشابه من قبل، في إحدى الأيام تكون تلعب كرة القدم في الفناء مع طفل ما، وفي اليوم التالي يكون الطفل ميتاً. تقاتل في إحدى الأيام في الخطوط الأمامية مع طفل ما، وفي اليوم التالي يكون الطفل ميتًا. عندما تكون صغيرا لا تسمي ما يحدث بالمأساة، إنما ترى ببساطة أن هذا هو الواقع في اليوم الرابع من رحيلهما. تم وضع باقتين من الزهور على مقعديهما، وكانت كل باقة تحتوي على البابونج. أتذكر ذلك لأنني شاهدتُ الزهور بقدر ما شاهدت الأخوين. في اليوم التالي، اصفرّتْ البتلات من الحواف وتحولت سيقانها إلى اللون البني . أردتُ حينها أن ألتقط الأزهار وأضعها في الماء، لكنني لم أستطع. كانت الباقات مقدسة للحد الذي لم أستطع فيه مساسها. لقد قضى الشقيقان نحبهما في غمضة عين، لكن الزهور كانت تموت ببطء. كانت الزهور تعلمني أنه في الحقيقة ما من موت سهل 3 كنا مطالبين في المدرسة على إبقاء شعرنا قصيرًا. تم فرض ذلك علينا كإحدى قواعد النظافة في زمن الحرب، والتي أصبحت تطبق بشدة لأن المناخ العسكري استولى على المدينة بأكملها، وأرادت السلطة تحويل كل مساحة فيها إلى حصن. في كل صباح، كان مدير المدرسة يقطع الفناء ويخترق صفوف الطلاب، ممررًا أصابعه على رؤوس الطلاب الذين يبدو شعرهم طويلا بعض الشيء، وما إن يعلق الشعر بأصابعه حتى يرسل الطفل عائدًا إلى منزله. اعتاد شعري أن ينمو بسرعة. مما كان يجعلني أحتاج لقصه بانتظام آخر خميس من كل شهر، إذ يقوم أبي بتركي في صالون حلاقة الحاج علي بالقرب من "مزار" ويعود لي بعد ساعة من تركه لي. مرة نسينا أن نذهب في موعدنا الشهري، تفحصت شعري في الليل فوجدت أن شعري قد نبت أكثر من اللازم. فقضيت إثر ذلك صباح الجمعة بكاءً، وغضبتُ من والديّ لأنهما يتهربان من أداء واجبهما. حاولا التخفيف من روعي بقولهما إنهما سيذهبان معي إلى المدرسة. لم يجدِ الامر معهما وأسفر إلحاحي على خروجنا أنا وأبي إلى شوارع الأهواز بحثاً عن صالون حلاقة يفتح أبوابه بعد ظهر الجمعة. نجحنا بالعثور على أحدهم في وسط المدينة، كان شابا بالكاد قد أتم العشرين من عمره قطعنا اندماجه بمشاهدة مباراة لكرة القدم كانت تبث على شاشة التلفاز حينها. شرح أبي له الوضع، وقال له الشاب أن نصف ساعة تكفي ليعود لي ويجدني جاهزًا. جلست على المقعد. طوق الشاب عنقي بتلك القطعة التي تقي ملابسي من الشعر المتساقط وأسرع نحو ماكينة الحلاقة في أي مدرسة تدرس ؟ .. سألني- قلت: " أرفاند" وأنت في أي مدرسة ؟ سمى مكانا لم أعد أتذكره مدرسة ثانوية ؟.. قلت !لم أذهب إلى المدرسة الثانوية بعد.. لقد ذهبت إلى الجبهة- أووه رائع جدا- لماذا تعتقد أنه رائع ؟- - لا أعرف .. ذهبتَ إلى الجبهة وحاربتَ العراقيين - أنت تحب الجنود ؟ أحبهم- :أوقف ماكينة الحلاقة وكان يحدق في المرآة. وقال "سأقول لك شيئا لا يجب عليك نسيانه أبدا.. حسنا؟ " حسنا- . كل من يعود على قيد الحياة من هذه الحرب اللعينة ابن قحبة بما فيهم أنا- !!تبدلت جلستي والتفت إليه قائلا: أنت تعرف ماذا تعني هذه العبارة "ابن قحبة" ؟ إنها كلمة سيئة للغاية إنها أسوأ شيء يمكن أن تقوله لأي شخص. لكن الحقيقة هي أنك إن لم تقضِ على ابن قحبة منهم فسوف- .تُقتل إذا نجوت في الحرب فاعلم أن هذا حدث لأن شخصًا آخر قد مات بدلا عنك. هل تفهم ؟ .قلت نعم. وتظاهرت بأنني فهمت كلامه. قام بتشغيل ماكينة الحلاقة وواصل حديثه: " مرة كان علي الذهاب في مهمة استطلاعية سأضطر فيها للسباحة عبر النهر إلى العراق والتحقق من موقعين، وعليّ أن أعود سباحة مرة أخرى. كانت احتمالية قتلي تصل إلى 99% كنتُ أعرف ذلك، وكان قائدنا الأعلى يعرف ذلك، وكان قادته يعرفون ذلك، ولم يهتم بذلك أحد. في ذات الوقت كان يشاركني الخندق رجل من قرية "سوسانجيرد" . تظاهرت أمامه بأنني مريض وطلبت منه أن يقوم بالمهمة نيابة عني. لبى المهمة فورا . كان رجلًا مسكينًا لا يعرف أي شيء ، ويثق بالجميع. لم يعتقد أبدًا أن الجيش سيرسلهُ في مهمة على الأرجح أنه سيُقتلُ فيها. سبح الرجل عبر النهر ليلتها و قتله العراقيون. هل فهمت ما أقصد ؟ أومأت برأسي- . أنا على قيد الحياة هنا وأحلق رأسك لأنني ابن القحبة الذي عاد من الحرب وقُتل رجل آخر مكانه- 4 كان قد التحق بالمدرسة في وقت مبكر من العام الدراسي، لكنني لم أعرفه عندما انطلق جرس الإنذار. رغم أننا اشتركنا ذات الطاولة في الفصل الدراسي، كانت الطاولة عبارة عن خشب ضيق وطويل مصممٍ لطفلين. جلست بجانب الممر، وجلس بمحاذاة النافذة. كانت مكبرات الصوت مثبتة في جمعية أنحاء المدرسة، وفي كل مرة تظهر فيها الطائرات العراقية يرتفع صوت التنبيه ويستحيل الصوت كما لو أنه كان قادمًا من رأسي. فعلنا ذات الفعل مئات المرات: ننزل تحت الطاولات، نجلس القرفصاء، نضع أيدينا على ركبتينا، نمسك براحتينا فوق الأذنين، وننتظر. غالبا كنا نضطر للبقاء في هذا الوضعية الغريبة لمدة تتراوح بين عشرة وخمس عشرة دقيقة، ثم ينطلق الإنذار الأبيض، يعود الطلاب إلى الخلف، ويتبادلون النكات ويصرخون. في ذلك اليوم، وبعد وقت قصير من تحطم جرس الإنذار الأحمر، سمعنا الطائرات مجددًا، ثم انتبهنا لذلك الصوت الذي يسبق وقع الغارة. حط الصاروخ في الصف، أصابتنا الموجة التي يسببها انفجار الصاروخ، البعض كان يصرخ والبعض الآخر كان يبكي، كنت مصدوما من ردات الفعل كذلك كان زميلي الجديد.. صوت آخر، انفجار آخر. سقطت الجدارت والسقف، وتناثر زجاج النوافذ. "يجب أن أخرج " قال زميلي الجديد. قلت له: "لابد أنك فقدت عقلك" يجب أن أخرج. ودفعني ثم دفعته كذلك للوراء- مرة أخرى صوت الطائرة المرعب، كانت أقرب هذه المرة، لم يحدث شيء . كان كلانا يجلس في انتظار الإنذار الأبيض عندما لاحظت البلل، تيار ضيق ينسل بين فتحات البلاط وها قد بدأ في التراكم حول حذائي. إنها رائحة بول طازج، تابعتُ التيار ووجدتُ قطرات تتسرب من سرواله، وعيناهُ يملئوهما الدمع تحدقان بي في الظلام

لم تكن ردة فعلي للوهلة الأولى نابعةً من الشفقة عليه. إنما شعرت باشمئزازٍ تجاهه وانتابتني رغبة في أن أكسر عنقه. تم إطلاق الإنذار الأبيض، خرج الطلاب من مخابئهم، هادئين وخائفين، لم يكونوا في مزاج جيد للمزاح بعد كل ما حدث، كسرت زجاج الصمت وصرختُ : " انظروا لقد بلل نفسه" كنت أشير إليه وأنا أصرخ. شعرت بالحقد الذي حملته نظراته حينها دون أن أشاهدهُ. ضحك الجميع وانتشر الأمر في جميع أنحاء الصف. جاء المعلم ووبخني وقام بالتربيت على الصبي. بعد ذلك لم أره بعدها إطلاقا.. أو رأيته لكنني لم أتعرف وعليه 5 في 20 يوليو من العام 1987، وقع الجانب الإيراني والجانب العراقي على القرار 598 وانتهت الحرب. شاهدت الخبر على التلفاز مع عائلتي، وشعرتُ بالسعادة لأنهم كانوا سعيدين، لكنني لا أستطيع أن أقول أنني كنت كذلك تماما. "نهاية الحرب" لم يكن الأمر منطقيا بالنسبة لي. هل يعني هذا أننا لن نسمع إنذارات حمراء بعد الآن ؟ هل يعني هذا أننا سنذهب إلى المدرسة ونعود إلى البيت دون أي خطر؟ بدا ذلك لي مملا، لم أكن واثقا ما إذا كنت أريد تلك الحياة الجديدة. بشكل أو بآخر. إن نشأتك في الحرب تحولك إلى ذلك الصبي الصغير في غرفة إيما دونوغيو[1] . العالم الخارجي الذي لا توجد فيه طائرات حربية من الدول المعادية تكسر حاجز الصوت فوق الرؤوس موجود فقط على شاشات التلفزيون. كنت أعرف ذلك على أنه حقيقة الأشخاص الذين لم يتحدثوا لغتي . عندما تم إطفاء التلفاز، توجهت نحو سريري، وتساءلت عما سيكون عليه العالم في الصباح التالي. عندما فتحت عيني مرة أخرى. كانت الشمس قد أشرقت فعلًا. إن العيش بالقرب من الخطوط الأمامية للحرب، تعني أنك لن تستطيع النوم لليلة كاملة. شيء ما سيقطع نومك دائما. كل ليلة لمدة ثمانية أعوام كنت أستيقظ فيها على الأقل عدة مرات قبل الصباح. كل هذا بالإضافة إلى الإزعاج في الخارج، كانت الكهرباء أيضا تنقطع في أغلب الأحيان، وكانت معظم الليالي إما باردة جدا أو حارة جدا. كان الطقس لا يسمح لنا بالنوم. في الليلة الأولى من السلام. نمت حتى الصباح، لا حشرجة بنادق، لا انذارات حمراء، لا حرارة شديدة أو بردٍ شديد, أغمضتُ عيني على طرف من الليل وفتحتها على الطرف الآخر. خرجت من السرير ونظرتُ من النافذة. أتذكر الآن ذلك الوهج الغير عادي لكل شيء في الفناء. انعكاس أشعة الشمس في الصباح على سلاسل الأرجوحة. الأقحوانات والنرجس الذي يتمايل في العشب. صفاء شجرة الأوكالبتوس في الشارع. لقد وجدت السلام غريبا ومسليا 6 في يوم شتاء دافئ بعد توقيع السلام، وأثناء حرب الخليج الأولى في عام 1991، كنت جالسًا بجوار النافذة في الصف. أحدق في السماء الزرقاء الصافية. أعد العد التنازلي لأتمكن من المغادرة. كنت حينها في الحادية عشر من العمر. فجأة أصبحت السماء الصافية قاتمة. كنت أشاهد تحول الزرقة إلى قتامة شديدة، اكتشفت بعض السحب السوداء التي تتدفق نحو المدينة. ظل المعلم مترددا على السبورة ويتحدث محاولا تجاهل الأمر، حتى أصبح من المستحيل تجاهل الطقس. في البداية بدتْ وكأنها عاصفة، لكن الظلام استمر في التكاثف، أصبح منظر السماء وكأننا في الليل إلا أننا كنا في منتصف النهار. أسقط المعلم الطباشير وغادر الفصل. تبعناه.. كما غادر أيضا الطلاب والمعلمون الآخرون صفوفهم وتجمعوا في الخارج تحت السقيفة إنها نهاية العالم " همس بذلك صبي يقف خلفي. صدقته، بدأت بالتفكير في ما فعلته في حياتي من أمور جيدة وأخرى سيئة لمحاولة معرفة أين سينتهي بي الأمر إذا كان اليوم حقا نهاية العالم. قررتُ أن من نشأ في الحرب فإن ذلك سيكون عقابًا كافيًا له عن أي خطيئة ارتكبها. أمطرت السماء .. بدأتْ قطرات المطر الثقيلة تقع على السقيفة التي تحمينا. سرعان ما أصبح وابلا من دون توقف. اخترقت خطوط سميكة من المطر السقيفة إلى الفناء. امتلأ الهواء برائحة غريبة. جمدتنا صرخة المدير في أمكنتنا.. صاح في الميكرفون . " ابقوا تحت السقيفة.. إنه ليس مطر .. هذا نفط"- كان الصمت الجماعي مفاجئا وثقيلا جدا، لدرجة أنني استطعت أن أسمع دقات قلب الذي كان قد أعلن عن نهاية العالم. نزل المطر النفطي على شكل خيوط، كل نقطة تقع على الأرض كانت تعلق على هيئة ذيل طويلة.. الآلاف منها شكلت ستائر نصف شفافة متوازية غطت العالم من حولنا . تساقط المطر النفطي على الأهواز في فبراير 1991 في ذروة حرب الخليج، بعد عدة ساعات من قصف الطائرات العراقية لبحيرات نفطية هائلة في الكويت، بدأ الانفجار على هيئة غيوم سوداء، ازدحمت في السماء، حملتها الرياح القوية باتجاه الشمال وعلى امتداد الخليج. كانت السحب تقوم بإمطار كل المدن وقرى الجنوب بالمطر النفطي الأسود. ظلت الغيوم تمطر على مدينتنا لمدة خمسة عشرة دقيقة، ثم اتجهتْ باتجاه الشمال. يومها عندما غادرت المدرسة، كان من الصعب التعرف على ملامح المدينة، الأسفلت متلألئ بالنفط الأسود، السيارات واجهت بعضها البعض في مفترق الطرق، الناس امتلأوا في الساحات، وعلى الأرصفة، في الشارع، مرعوبين ومحتقنين.. يحدقون بصمت. كانت الأشجار أشبه بجنود قتلى تفحموا وهم على أقدامهم. القطط الضالة الميتة في كل مكان، إلى جوار الضفادع المجففة ،والصراصير المقلوبة، كما أن جثث الحمام والعصافير تساقطت كذلك من السماء ****** ما الذي يدفعني للكتابة ؟ أنا أعيش في أمريكا، حيث الجميع قلقون من الحرب. في عام 2016.. قرر جزء كبير من سكان الولايات المتحدة تسليم السلطة إلى رجل مفتون بزر القنبلة النووية في مكتبه. صحيح أن أسلافه لم يكونوا مسالمين بشكل خاص، لكن هذا المتهور المدمن لتويتر صاحب الأنا الجريحة يشكل تهديدا مختلفا للعالم. يتفاقم خوفي المتجدد من الحرب عندما ألتقي بأصدقائي الأمريكيين. إنهم ضد فكرة الحرب، لكنهم لا يفهمون ما هي الحرب في الواقع. الحرب بالنسبة للعديد من الأشخاص ذوي النوايا الحسنة الذين أعرفهم، هي مأساة مجردة. يكفي أن تلتقوا هؤلاء الذين عايشتهم لتفهموا ماذا أعني الأهواز اليوم هي موت لعين. إن مكان Blade Runner 2049ولادتي اليوم يشبه المدينة المهجورة في حيث يذهب ريان جوسلينج لمقابلة هاريسون فورد. لم تقف الأهواز على قدميها بعد الحرب. إن عدم كفاءة الحكومات المتعاقبة، بالإضافة إلى الآثار الكارثية للجفاف في العالم جعلت السنوات الماضية شديدة جدا، وغير قابلة للعيش في الأهواز. لقد أصبح نهر كارون، وهو النهر الواسع المتعرج عبر الأهواز لآلاف السنين، النهر الذي أبحرت فوقه ناقلات النفط منذ خمسين عاما أشبه بغدير. تخيلوا أن يجف النهر الشرقي في مدينة نيويورك، وأن يتدحرج أهالي نيويورك على رصيف ميناء ويليامزبرس ويعبرون أرضًا جرداء إلى الجانب الشرقي الأدنى. هكذا يقضي موت كارون على الأهواز. السماء الزرقاء هي شيء من الماضي. تقريبا كل الأراضي الرطبة والبحيرات التي تحيط بالمدينة جفّتْ. كل رياح تمر تحمل معها كميات كبيرة من الغبار، والتي تغطي كل شيء تمر عليه بما أن مسقط رأسي تشوه إلى حد كبير، فإن ماضيي كذلك أصبح غير مستقر بشكل أكبر. إنني أكتب لتقديم مساهمة، مهما كانت صغيرة ومثيرة للشفقة، لإنقاذ المكان. ليس من قبيل المصادفة أنني اخترت أن أكسر الصمت في وقت كان فيه الناس في كل مكان يفعلون نفس الشيء. في أعقاب حركة #MeToo ، قرأت كتابا في الـ"نيويوركر" حول النساء اللواتي ناضلن للتقدم والإفصاح عن قصصهن. إنهن لم يردن أن يتم اعتبارهن كضحايا. كانوا يخجلون مما حدث لهم. كانوا يخشون من انتقام الذكور الجناة. عندما كنت أقرأ عنهم. قرعت صناديق الحكايات القابعة في رأسي : ألا أرفض التحدث عن الحرب لأنني أكره إيذاء ذاتي؟ هل أنا حرجٌ من طفولتي، قلقٌ من أنه إذا عرف الناس عن هذا الأمر، أن يعتقدوا أنني مضطرب بشكل لا يمكن إصلاحه؟ هل أخاف من مسعري الحرب؟ كانت أوجه التشابه أكثر من أن أرفضها،وأصبح الاستنتاج الذي لم أجد أي مفر منه: هو أنني انتُهكتُ أيضا.. لقد انتُهكتْ طفولتي. وقد تم انتهاك طفولة جميع الأطفال الذين نشأوا في مناطق الحرب، في أي مكان، وفي أي زمان. إن لحظة #MeToo هي لحظتي أيضا. فالمتحرشون الجنسيون، الرجال الأقوياء، يمزقون ذات القطعة من القماش التي يمزقها أرباب الحروب ومكرسوها لقد فُتحتْ لنا مساحة للحديث عن قصصنا دون خوف من التعرض للظلم أو العار. ويجب علينا أن نستغلها قبل أن ننزلق في جنون عالم مصابٍ بتشتت الانتباه ي1- يقصد رواية الغرفة للكاتبة الإيرلندية الكندية إيما دونوغيو إذ تُروَى القصة في الرواية من منظور طفل ذي خمس سنوات يدعى جاك كان مأسورًا برفقة والدته في غرفة صغيرة


تعليقات


Featured Review
سوف تأتي المنشورات قريبًا
بمجرد نشر المنشورات، ستراها هنا.
Tag Cloud
  • Facebook Social Icon
  • Black Twitter Icon
  • Grey Google+ Icon
bottom of page