top of page


ree
ree

سيدي العزيز..

لقد جئتَ هذا الصباح لزيارتي في السجن للمرة الخامسة ورفضت خدماتك مرة أخرى. أكتب لك هذا حتى تتوقف عن إضاعة وقتك. ثم إنه عليك أن تعرف بدلا من أخذك الأمر بشكل شخصي، وتدرك الآن أنني لم أتحدث إلى أحد بعد وفاة مانا.

لقد راجعتُ جميع رسائلك بعناية مرة أخرى، وليس لدي شك في أنك محق في كل شيء. إن رفضي لخدماتك كمحامٍ لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع ولن يفيدني في شيء. أعرف كل ذلك. وأنا في كامل قواي العقلية عندما أطلب منك التخلي عن هذه القضية. إنني أرفض تقديم أي وثيقة قد تساعد في تبرئتي لسبب بسيط: أنا لا أريد أن تتم تبرئتي. أنا لا أبالغ في الدراما ولا أحاول الاستعطاف، و هذه ليست رسالة انتحار أو أي هراء من هذا القبيل. لقد عقدتُ العزم ببساطة على البقاء هنا حتى النهاية. إن التفكير في احتمال صدور حكم علي بالسجن مدى الحياة، أو حتى حكم بالإعدام، لا يكاد يزعجني. إنني أكتب هذه الرسالة فقط لأنني معجب بإصرارك، واجتهادك المهني الذي يجعلني أخجل من وقت لآخر. أنت تستحق أن تفعل أشياء أفضل من أن تأتي إلى هنا عدة مرات في الأسبوع وتغادر خالي الوفاض. وعليه.. سأحاول أن أشرح بإيجاز لماذا قتلتها. آمل، بعد قراءة هه الرسالة، أن تستسلم وتركز على قضاياك الأكثر أهمية وجدارة من قضيتي.

بدأ الأمر منذ شهرين، عندما اكتشفتُ صرصورًا في مرحاضنا وفقدته. قبل الزواج لم أكن أخشى مثل هذه المخلوقات. لقد نشأتُ في منزل ذي فناء خلفي ضخم مليء بالضفادع والسحالي، وكان ابتكاري لطرق جديدة لتشريحها يسليني خلال فصل الصيف. كنت أستخرج أحشاء أي كائن متحرك لم يحالفه الحظ فقادته خطاه لدخول مساحتي الخاصة ، لكن الصراصير لم تكن من بين تلك الكائنات أبدًا. ثم انتقلتُ إلى طهران وأدركتُ أن الصراصير هنا تفوقت على جميع الحشرات الأخرى. أعتقد أنهم يفوقوننا عدداً يا سيدي، حتى أننا الآن في جنوننا قد تجاوز تعدادنا العشرة مليارات.

 

لم يزعجني انتشار الصراصير في كل مكان. لم أحاول أبدًا تشريح الصراصير، ولكن كطالب وحيد ومضطرب محاصر في مدينة متوحشة، قضيت وقتًا طويلاً في مراقبتها وهي تتجول في المرحاض. كان ذلك قبل الزواج. بعد الاستقرار في شقتنا، علمت أن مانا لا تطيق رؤية الصراصير. مواجهة صرصور بالنسبة لها كانت مواجهة ملاك الموت بشحمه ولحمه.لأنه في كل مرة كانت صرخاتها طويلة وعالية بما يكفي لإفاقة الجيران من خدرهم الذي أصابهم به التلفاز، حتى أنهم فتحوا أبوابهم عدة مرات ليشاهدوا هذه الدراما. بعد فترة، وعلى الرغم من تعاطفي العميق مع المخلوقات الصغيرة، أصبح من الواضح أن العيش حياة هادئة تتطلب مني القسوة تجاه الصراصير. أخذت الدرس على محمل الجد عن ظهر قلب: عند دخولي إلى المرحاض، كنت ألقي نظرة فاحصة حولي لأفتش عن الصراصير. وعند العثور على واحد منها، كنت أقتله على الفور بنعلي وأرميه في المرحاض. كان قلبي يخفق بشدة في كل مرة تدخل فيها مانا إلى المرحاض. كنت أبقى على أهبة الاستعداد، وأبقي خفيّ بالقرب مني في متناول يدي، مستعدًا للتصرف بمجرد سماع صراخها.

وهكذا كانت الأمور، حتى ذات صباح قبل شهرين, عندما دخلت المرحاض ورأيت صرصورًا ضخمًا في الأرض يحرك قرون استشعاره. وسرعان ما التقطت شبشباً. فهرب بعيداً وانطلق بسرعة غير عادية على امتداد الجدار. طاردته وحاصرته في الزاوية وقذفته بالنعال. تفاداه الصرصور. تعقبت الحشرة لخمس دقائق أخرى وقذفتها بالنعال عدة مرات أخرى دون جدوى. كانت أمعائي تضغط بشدة، لذلك استسلمت و وانصرفت إلى عملي وأنا أراقبه في الزاوية. كان بإمكاني تخيل فمه الخفي وابتسامته المنحنية المفتعلة، وعقله يفيض بثقة وهو يستعد للجولة التالية من الغارات. لكنني تخليت عن حذري لهذا اليوم.

عندما غادرت المرحاض، التقيت وجهاً لوجه مع مانا. كانت تقف خلف الباب، تراقبني بريبة. سألتني إن كنت قد قتلته.  عرفت أنني يجب أن أقول نعم، وإلا سأضطر للعودة إلى الداخل  لأقضي عليه. أومأت برأسي. تجاوزتني مانا في صمت ودخلت. تصرفها فاجأني، على حين غرة هيأت المشهد لشجار آخر على تهاوني في قتل الصراصير. جلست بالقرب منها وتسلحت بنعلي، مستعدًا للتدخل. لم يحدث شيء. خرجت وشاهدتني في تلك الوضعية السخيفة. لا بد أن مظهري أثار شكوكها مرة أخرى، لأنها بعد بضع دقائق عادت إلى الداخل. وظللتُ أنا في حالة استنفار ولكنني لم أسمع أي صراخ مرة أخرى.

 

في نفس تلك الليلة، قبل أن أخلد إلى النوم، رأيت الصرصور مرة أخرى، في نفس الزاوية، يحرك هوائياته. ذهبت إليه، وأنا أقل تصميماً هذه المرة. أفلت بسهولة من محاولتي الفاترة. لم أحاول مرة أخرى. استمر ذلك لعدة أيام. لم ترَ مانا الصرصور أبدًا، ولكن كلما خطوت إلى هناك كان هناك، في نفس الزاوية، على ما يبدو ينتظرني. عند هذه النقطة، وبما أنه أثبت أنه ذكي بما فيه الكفاية ليختبئ من زوجتي، أعلنت هدنة.يبدو أن الصرصور قد اكتشف ذلك. بدأ يغادر الزاوية ويتجول بحذر بينما كنت جالسًا على المرحاض. كان لا يزال يحافظ على مسافة آمنة، وهو أمر معقول بعد تلك الغارات القاسية. في هذه الأثناء أعجبني وجوده. كان وجوده حولي يولد ذكريات الماضي البعيد جدًا، عندما كان لدي فضول مولع تجاه الحشرات. الآن في كل مرة كنت أنهي فيها حاجتي في المرحاض، كنت أجلس لفترة من الوقت بعد ذلك أراقب الصرصور.

أحيت هذه الفترات من الدراسة اهتماماتي في علم الحيوان. درست بعض التناسق في حركة هوائياته، وحاولت أن أعرف كيف تعمل أرجله عندما يتسلق الحائط، ودرست عادات حركته لمعرفة الفروق بين المشي على الأرض والحائط. لم تشك مانا في شيء أبدًا، لقد قد نجحت أخيرًا في الالتفاف حولها، واقتطعت لنفسي معتكفًا شخصيًا.

ربما كان ذلك بعد حوالي أسبوعين من لقائنا الأول، عندما لمست الصرصور للمرة الأولى. في ذلك اليوم، بينما كنت جالسًا على المرحاض، وقف الصرصور أمامي مباشرة. لطالما افترضت أنه كان يدرسني كما كنت أدرسه. لكن في ذلك اليوم شعرت أن الصرصور كان يوليني اهتمامًا خاصًا. لم يتحرك لفترة من الوقت؛ كانت قرون استشعاره معلقة بلا حراك في الهواء. اعتبرت هذه البادرة في عالمهم مؤشراً على التفكير الصارم. ظللت أحدق في الحشرة حتى اتضح لي أنها ربما كانت تنتظر مني أن ألمسها.

فكرت في الأمر لفترة من الوقت، ثم مددت يدي نحوها بأبطأ ما يمكن. لم أستجب. توقفت على بعد أقل من بوصة من جسده. ما زال لا يوجد رد فعل، ولا هروب أو ذعر. حتى الهوائيات كانت ساكنة. بدا المخلوق وكأنه يتطلع إلى أن يلمسه أحد. لمسته. استند طرف سبابتي على ظهره. كانت ناعمة وأنيقة وهادئة. داعبته برفق من رأسه إلى بطنه وصولاً إلى قضيبه. شعرت بنشوة، كما لو كان إصبعي موصولاً بمصدر طاقة غامضة. ضغطت بطرف إصبعي برفق على ظهره الهش. انحنى جسده وأظهر انعكاسًا مختلفًا للضوء. شعرت وكأنها قطعة زجاج تم فركها إلى أرقى أشكالها. بعد أن انتهيت من فحصي اللمسي، تحرك الصرصور. خدش طرف إصبعي وأمسك به وتسلق ببطء. رفعت يدي فسار على كفي، وتوقف عند الخطوط.كانت خطوات الصرصور خفيفة تدغدغني. أغمضتُ عيني لأستوعب هذا الإحساس، لأستوعب هذه الضربات من يد الطبيعة الأم، القادمة من خلال الأرجل الصغيرة لحشرة. ولكن قبل أن أختبر هذا الشكل النهائي من أشكال التطهير، هزني صوت مانا: "ماذا تفعل هناك؟ هل أنت بخير؟" "نعم، نعم. لقد انتهيت"، قلت على الفور وانحنيت لأضع يدي على الأرض. قفز الصرصور من على المرحاض وخرجت مسرعًا من المرحاض.

أصبحت الحشرة رفيقتي. بدأت أفتقده بعد ساعة أو نحو ذلك، وكنت أذهب إلى المرحاض عدة مرات في اليوم لزيارته. كنا على وفاق تام. وذات يوم اخترت له اسماً. وبينما كان جالسًا في راحة يدي، حملته إلى وجهي وحدقت مباشرة في ما افترضت أنه عيناه. وبينما بدأت نظراتي تتبادل التحديق في عينيه، أو هكذا ظننت، تجلت لي ذكرى صديق الطفولة من العدم.

كان جارنا منذ ثلاثين عامًا. وبما أنه كان طبيباً الآن، قررت أن أطلق على الصرصور اسم "دكتور". الآن يمكنني أن أخاطبه مباشرة وأتحدث معه. وضعت التسمية علاقتنا على مسار جديد. كنت أتحدث معه كل ليلة عن يومي: أنشطتي، ومخاوفي، ومشاكلي. والآن بعد أن أصبح له اسم، لم أتردد أبدًا في مشاركة أي شيء معه. لم يكن عليّ سوى أن أخفض صوتي قدر الإمكان، حتى لا يصل شيء إلى مانا. بدأنا في طقس يومي: كنت أجلس على المرحاض، فيأتي الدكتور ويقف أمامي، فأمد يدي وأصبعي إلى الأرض، فيقفز ويبدأ في المشي حول جسدي. كان الدكتور ينتقل من ذراعي إلى كتفي، ومن حول رقبتي إلى الكتف الآخر، ثم يصعد على رأسي؛ كان يتمايل بين شعري، ثم يركض على طول يدي الأخرى ثم يعود إلى الأعلى مرة أخرى، ويمر فوق كتفي ليصل إلى ظهري، ثم يزحف إلى أعلى وأسفل عمودي الفقري ويركض في دوائر. كانت خطواته الإيقاعية الخفيفة، التي تشبه المسيرة، تمتلك خاصية تشبه التخدير الذي كان يغريني بالكلام. كانت الكلمات تتدفق، وكنت أحكي للدكتور عن الحياة في الخارج: ما يفعله الناس وما لا يفعلونه، وكيف أن كل شيء كان باهظ الثمن، وكيف أن حركة المرور كانت فظيعة والهواء ملوث. أحيانًا كنت أتذكر طفولتي، وأتحدث عن والديّ وتربيتي. وأحيانًا كنت أتطرق إلى زوايا مظلمة من حياتي لم أتحدث عنها من قبل. حتى أنني كنت أتطرق إلى أمور شخصية للغاية، من خصوصية غرفة نومي إلى أعمق الأفكار السرية في رأسي.

كان هذا هو الحال، لمدة عشرين يومًا تقريبًا. خلال تلك الفترة، تحسنت الحياة بشكل مطرد بالنسبة لي. شعرت بتحسن كبير من الناحية النفسية. وعادت الأمور إلى مسارها الصحيح. حتى حياتي الزوجية تحسنت، واتخذت العلاقة مع مانا منعطفًا إيجابيًا، بعد سنوات من المشاكل. على الرغم من أنها لم تتوقف عن الشكوك - وكانت شكوكها موجهة نحو المرحاض. كانت قد لاحظت زيادة وتيرة زياراتي له وطول مدة زياراتي له. وألمحت ذات مرة إلى أنها كانت تعلم أنني كنت أتحدث إلى نفسي في المرحاض، لكنها لم تقل أي شيء آخر. كانت مهذبة للغاية لدرجة أنها لم تسأل عن عملي هناك بمزيد من التفصيل، وكلما حاولت التطرق إلى هذا الموضوع - نظرًا لخلوها من السخرية - كانت أسئلتها تميل إلى أن تبدو سخيفة. على سبيل المثال، ظلتْ لفترة من الوقت تحاول مناقشة الإمساك والإسهال، وفي كل مرة من زاوية مختلفة، وكانت تنتهي دائمًا بسؤالها عما إذا كانت لدي أي مشاكل في التبرز.

في وقت لاحق، حدث أن اتخذتُ قرارًا خطيرًا، وهو أمر لم أكن لأفعله لولا ثقتي المفرطة في قدرتي على كتمان سري. فقد ظننت أنه إذا كان الصرصور قادرًا على الاختباء في مرحاض مساحته عشرة في عشرة، فإن فعل الشيء نفسه في شقة كبيرة مساحتها سبعمائة قدم مربع لن يكون مشكلة كبيرة. لذلك قررت السماح له بالدخول إلى المنزل. لم تكن المخاطرة من أجل المتعة فقط، بل كانت هناك أيضًا العديد من الفوائد: كان بإمكاني استخدام المرحاض بشكل أقل بكثير؛ كان بإمكاني وضع الـ"دكتور" على جسدي، تحت ملابسي، وقتما أريد، حتى عندما تكون مانا على بعد بضعة أقدام فقط؛ وكان بإمكاني الاستمتاع بجعله يتجول على جلدي بينما أتحدث إلى مانا.

بعد بضعة أيام من التخطيط والعمل على الأمور اللوجستية، اتخذت قراري ذات يوم. بعد عودتي إلى المنزل هرعت إلى المرحاض وشاركت القرار مع الـ"دكتور"، وشرحت له سبب اتخاذي له. بدا الـ"دكتور" موافقًا على ذلك. خرجت من المرحاض والـ"دكتور" تحت قميصي. قبل أن أغادر، أخذت عدة أنفاس عميقة، وحركته إلى منتصف بطني، وضغطت عليه قليلاً، كما لو كنت أقول: "أرجوك لا تتحرك".

بينما كنت أخرج، واجهتني نظرة مانا. كانت تقف على بعد أمتار قليلة من الباب، تحدق بي. لم أستطع قراءة وجهها، لكنني فقدت هدوئي على الفور وبدأت أتصبب عرقًا. تدحرجت عيناها إلى الأسفل، وألقت نظرة فضولية على جسدي. تقدمت نحوي ومدت يدها ولمست فخذي الأيمن ثم تراجعت، كل هذا في صمت. استقرت يدها على بعد قدم أو نحو ذلك أسفل مكان جلوس الـ"دكتور". بعد هذا التصرف، بدت أكثر غضبًا. استطعت أن أرى نفسي في عينيها، وقد تحولت إلى اللون الأبيض كالشبح، وأنا أرتجف وأتصبب عرقاً كما لو أنها أحكمت حبل المشنقة حول عنقي. كان الصمت يصم الآذان. تكلمت لأكسره:

- "ما الأمر؟ "ما الذي تفعلينه؟"

- "لا شيء. "ماذا عنك؟"

- "ماذا عني؟"

- "هل أنت بخير؟"

- "نعم بالطبع أنا بخير. لماذا تسألين؟ "ما هي مشكلتك؟"

- "أنت بخير لماذا تبدو وكأنك ميت؟ لماذا "يدك ترتجف؟

- "لا، لا. ليست كذلك. أنا بخير."

اندفعتُ إلى الغرفة. تبعتني. جلستُ على السرير. وقفت هي عند الباب.

- "ما خطبك بحق الجحيم؟" صرختْ بصوت مرتجف. "هل أبدو؟ حمقاء؟" صرختْ. "في كل مرة تبقى في المرحاض لمدة خمس عشرة دقيقة تتحدث مع نفسك ... يا إلهي. يا لك من أحمق، هل تعلم هذا؟"

- "ماذا تعنين؟"

- "فقط اخرس بحق الجحيم!" صرختْ.

جلستُ على السرير لفترة من الوقت أفكر ملياً فيما كانت تعنيه. أعدت النظر في مسرحيتنا الصغيرة، ووضعت يدي على نفس البقعة التي استقرت فيها يدها. كان الجزء الأكبر المنتفخ من هاتفي الخلوي تحت كفي؛ لم أكن قد أخرجته من جيبي بعد وصولي إلى المنزل. كان يجب أن أضحك. كان يجب أن أطمئنها أنها كانت مخطئة. لكنني لم أفعل. للحظة، تمنيت للحظة أن الأمر كان كذلك في الواقع: أنني كنت منغمسًا في غش مثير للشفقة في المرحاض، أتحسس نفسي بينما كنت أتحدث عبر الهاتف مع امرأة أخرى. ماذا كان سيحدث لو أنها عرفت أن الأمر كله في الواقع يتعلق بعلاقة حميمة مع صرصور، مستلقياً على بطني بجانب المكان الذي وجدت فيه الهاتف؟ تهادى الـ"دكتور" إلى اليمين ووقف على منحنى جانبي. تظاهرت بالحك، تحت نظرات مانا الثاقبة، وضعت يدي اليمنى المتذبذبة هناك وأشرت إليها أن تتحرك. اتجهت نحو ظهري. كان ينبغي أن أضحك بصوت عالٍ. كان يجب أن أبكي، "هل فقدتِ عقلك؟" كما يفعلون في الأفلام، وأهدئ من روعها، وأؤكد لها أنني أحبها أكثر من الكون كله. ليس لأنني لا أستطيع الكذب. لو كان الأمر يتعلق بنوع من الجنس الخيالي، لكنت كذبت. لكن لا يا سيدي، لقد كانت مجرد حشرة، والتفكير فيها جعل لساني يتخدر. التزمتُ الصمت. وقفتْ هناك لبعض الوقت، منتظراةً اعترافاً أو إنكاراً. وعندما اتضح لها أنها لن تحصل على أي منهما، انغلق الباب.

تحولت حياتنا إلى جحيم. لم نكد نحظى بيوم هادئ منذ ذلك الحين. ومع انقشاع غبار ذلك اليوم الأول، تمكنت من استجماع مهاراتي في التلفيق وحاولت إقناعها بعدم وجود امرأة. كان الأوان قد فات. أصبح الشجار والعبوس نشاطًا مرهقًا، يومًا بعد يوم، ولولا خطوات الـ"دكتور" المهدئة على جسدي لجنّ جنوني. منذ ذلك اليوم فصاعدًا، تجاهلت مانا جسدي تمامًا، حتى يتمكن الـ"دكتور" من العيش بشكل دائم تحت قميصي. أصبحتُ تدريجياً مدمنًا على وجوده على جلدي. بين الحين والآخر، كنت أتركه ينزل في المرحاض ليأخذ قسطًا من الراحة في بيئته المعتادة ويبحث عن بعض الطعام، لكن في كل مرة، بعد أقل من ساعة، كانت تندلع مشاجرة مع مانا، أدركتُ أنني لا أستطيع تحمل البقاء بدون الـ"دكتور". أصبح الصفاء الناجم عن إيقاع ساقيه مسألة بقاء على قيد الحياة. ومع ذلك فإن هذا السير المتواصل، دون طعام أو راحة، كان يضعفه. كنت أشعر باضطراب حركاته وتباطؤ وتيرته. كان ذلك هو الوقت المناسب لوضعه في المرحاض. وذات مرة لم أستحم لمدة ثلاثة أيام، ونتيجة لذلك، اكتشفتُ شيئًا ما: من حرقة خفيفة، أدركتُ أن الـ"دكتور" كان يغرز كفه في جلدي. كان قد وجد مصدرًا جديدًا للتغذية، فقد كان يعيش على الطبقة الجزيئية من التراب على جلدي. لقد قدرت إبداعه وقررت تجنب الاستحمام لأطول فترة ممكنة. كان بإمكانه أن يجد طعامه على جسدي على مدار اليوم وأن يقضي لياليه في المرحاض بمفرده. وبعد ذلك، عندما بدت الأمور مستقرة نسبيًا، وقعت الكارثة.كان يوماً هادئاً بشكل مدهش. لا مشاحنات ولا صراخ ولا تلميحات مزعجة. كنت قد استحممت في اليوم السابق، لذا لم يتناول الـ"دكتور" أي شيء لأكثر من أربع وعشرين ساعة. تركته في المرحاض واستلقيت على السرير. كنت في مزاج جيد، وشعرت بنشوة غريبة لم أشعر بها منذ فترة طويلة. سمعتُ خطوات مانا وكان باب المرحاض مغلقًا. فكرت في المصالحة تلك الليلة. كان كلانا قد سئم وتعب، وكنا على استعداد لتطبيع حياتنا وإنهاء المشاحنات المستمرة. كان عليَّ فقط أن أمضي قُدمًا وأعتذر عن الجريمة التي لم أرتكبها، وأشكرها على شهامتها. في تلك الليلة، كنت سعيدًا باتخاذ تلك الخطوة. خرجتْ من المرحاض ودخلت الغرفة وجلستْ على حافة السرير بجانبي ووضعتْ يدها على جبهتي وداعبَتْ شعري. جلب هذا اللطف غير المتوقع الدموع إلى عيني. سرت دفقة من الارتياح في جسدي وتخلصت فجأة من عبء كبير. جعلني هذا الأمر أكثر إصرارًا من أي وقت مضى على التصالح معها. ابتسمت ابتسامة عريضة بقدر ما استطعت ونظرت ببهجة في عينيها. لم أتمكن من رؤيتها بوضوح تحت الضوء الخافت للمصباح بجانب السرير، لكنها بدت غريبة: شاحبة، واسعة العينين، مفتوحة الفم، ترمقني بنظرة جامدة لا ترمش. تحركتُ لأجلس، لكنها دفعتْ يدها على رأسي وأبقتني في الخلف. ثم أدركت أنها كانت طوال الوقت تبقي يدها الأخرى خلفها. شعرت بالتهديد. ولاحظت انتباهي إلى يدها الأخرى، وقبل أن أتمكن من التحرك مرة أخرى، رفعتها إلى الخارج. كانتْ يدها تحمل أكبر سكين في مطبخنا. لطالما وجدتها قبيحة بشكل خاص، حيث كان نصلها الطويل غير متناسب مع مقبضها القصير. في طرف السكين، برزت جثة الـ"دكتور". كانت السكين قد مزقت ظهره واخترقت أحشاءه وبرزت من بطنه، وكان طرف السكين مغطى بطين أبيض. ثم ساقيه كانت هاتان الساقان الرقيقتان اللطيفتان اللتان جلبتا لي رباطة الجأش قد اتجهتا بلا حراك، وكانت الهوائيات تتدلى بشكل بائس. والآن أخبرني يا سيدي: ماذا كنت ستفعل لو كنت مكاني؟ بصدق,

                                                                                                                                                   ك.


ree

يمكنُ للحياة أن تتفادى الموت إن أرادتْ أو أنْ تقارعهُ، وربما تحرمه من مهنته الأبدية. إلا أنها لا تستطيع تفادي شاعر يصرخُ في برية الله. أقول هذا وأنا أتعجبُ من تفادي المشهد الشعري، والثقافي السعودي للشاعر الراحل سليمان الفليح بطريقة تدعوني للرثاء البارد لهذا المشهد الذي يتنكر لفكرة الأصالة الشعرية. فحيث تزدحم المدونة النقدية بقصص أبطال الحداثة، وتجترها بطريقة سينمائية مملّة تتجاهل تجربة الفليح الكبيرة، هذه التجربة التي قدمت النص الجديد، باعتبارها جزءً لا يستطيع الفكاك عن محيطه العربي، غير متناسية رائحة الخيمة، أو صوت الربابة، بل حاملة الشخصية البدوية بكل تعلاتها، وحسناتها إلى أفق آخر، عبّرتْ عنهُ التجربة بكل عُرْيٍ، وحريةٍ، وصدق.


لقد حمل الفليح المكان، والزمان في شعره، حمل كل الموجودات التي تفاعل معها لتكون تجربته الشعرية تعبيرًا عن هذا التفاعل الخاص، والمميز بينه وبينها. وظل يراوح في تعبيره هذا بين الكتابة المقالية والشعرية، فصيحةً كانت أم نبطية.


إنه من نافلة القول أن نذكر بأن المزاج النقدي في الأساس، يظل محكوما بالذائقة، وهذا ما لا يمكن إنكارهُ. ولكن المزاج النقدي، قد يتعمد أن يتجاهل تجربة مميزة لأسباب لا علاقة لها بالفعل النقدي، لكنه لا يستطيع أن يتفادى تجربة كبيرة ومؤثرة كتجربة الفليّح، إلا عن جهل وعدم مواكبة لما يُنشر، أو أن المزاج النقدي العام يخضع لما هو خارج النص بالدرجة الأساس ولا يُعنى بقراءة التجارب الإبداعية لذاتها؟


هناك اتهام كلاسيكي يوجهه عدد لا بأس به من الشعراء دائما، للفاعلين في الحركة الشعرية والثقافية، تتلخص في فكرة "الشللية" التي أتحفظ تجاهها شخصيا، فكل من لم ينل حظه من الحضور الشعري، عزا السبب إلى كل شيء عدا نصه، وهذا لا يعني وجود بعض الحالات التي حصلت على الضوء بعد وقت طويل من الإهمال، والتجاهل. لكنني بدوري أود في هذه المساحة مساءلة جدوى التكريس في النقد الأدبي الذي يعنى بالشعر السعودي المعاصر. أعني ذلك الذي يتحدث عن جماليات القصيدة السعودية الحديثة، ويبحث في سماتها. دون أن يضع الأسئلة الأهم في نظري على الشعر والشاعر السعودي. عن ماذا يكتب الشاعر السعودي؟ ما الذي يمنح القصيدة السعودية ثوبها؟ هل أبدو مغاليا عندما أطرح أسئلة كهذه على التجربة الأدبية السعودية وأحاول قياس مخرجاتها وفقا لمدى إجابتها على هذين السؤالين؟

ثم هل انفتاح الشاعر على الكتابة في ألوانٍ أخرى يحد من أهمية المنجز الشعري، أم يضيف للتجربة ثراءً، وتنوعاً؟ إن تجربة الفليح امتدّتْ لتصل الشعر النبطي، والكتابة السياسية وحتى اليومية. ولعلي أسأل هنا هل أكلتْ المساحات الأخرى التي حاول الفليح طرقها حصته من حضوره الشعري؟ لماذا لم تلمع قصيدته كما لمعت قصائد مجايليه؟ إنني في ذكرى رحيله هذه لا أود أن أكون عاطفيًا بقدر ما أود أن أكون منحازًا ، لعمق تجربته التي أدهشتني شخصيًا، والتي أستغل هذه المساحة إلى الدعوة إلى إعادة قراءتها وفق سياقها التاريخي، وتقييمها إلى جانب تجربة القصيدة الحديثة، وتطورها في المملكة العربية السعودية.


هناك زعم يشاركني فيه الكثير من زملائي الشعراء المجايلين لي يتلخص في أن: الشاعر السعودي بعد أن انتهى من التعبير المحافظ، اتجه للتعبير الرومانسي، وعندما تلقف حركة قصيدة التفعيلة، حاولتْ بعض الأسماء فيه كتابة القصيدة الرمزية كما في بعض أعمال "سعد الحميدين" و "محمد العلي" ثم ظل يراوح ضمن مستويات مختلفة في التعبير عن قلقه وهواجسه، بطريقة جعلت الكثير من الشعراء متطابقين سواءً في استخدام المفردات، أو في الاستفادة من دلالاتها كالـ"مرآة، والطين، والناي، وغيرها". وضمن هذا المستوى ظهرتْ تجارب حاولت منح القصيدة السعودية ثوبا يميزها، مستثمرة عناصر المكان، مستخدمة الصحراء، والنخل، والشيح، والخيمة وكل العناصر التي تشير إلى سمة البداوة في الشعر، ولسان حالها كما قال الشاعر القديم:" وفي البداوة حسن غير مجلوبِ" حاملةً في نصها ذات القلق الوجودي المشترك، دون أن تظهر سمات جادة تميز التجارب الشعرية عن بعضها، هذا مع الإشارة إلى بعض الاصوات التي حاولت التغريد بعيدًا عن أسلافها، وقامت بمراكمة رصيد يستحق الاحترام، وسوف نتعرض لها في وقت آخر. إن المفارقة المثيرة للسخرية تكمن في أن الشعراء في المحيط العربي كانوا يمرون بتقلبات سياسية، واجتماعيةـ، وتراجيدية جعلتْ الكثير منهم ينشد الاستقرار ليتفرغ لمشروعه الشعري، باعتبار الاستقرار، والأمن سيدفع تجربته الإبداعية إلى مناطق لن يصلها وهو يعيش الاضطراب. بينما الشاعر الذي ظل ينعم بوضع سياسي واقتصادي، واجتماعي مستقر ودافعٍ للنظر في التجربة الإبداعية بهدوء، ودون منغصات ظل يبحث عن موضوع لتجربته الشعرية، وهذا الأمر ليس انتقاصًا للعملية الإبداعية لكثيرٍ من الشعراء الرائعين لدينا، ولكنه سؤال للنقد الأدبي السعودي، لماذا غفل عن دراسة جوهر مشكلة التعبير الشعري في السعودية؟ والتي نجا منها الشاعر سليمان الفليح، الذي أزعم بمقالي هذا أنه استطاع الإجابة عن سؤال مضمون التجربة الشعرية كشاعر سعودي في المقام الأول، وشاعر عربي يعرف متى يتفاعل مع الهم المشترك، ويعرف متى يعبر عن الجواني. فإننا نجد في تجربة الفليح، والتي أدعو فيها إلى الالتفات إلى طرائق تعامله مع الرموز التراثية التي تنتمي للجزيرة العربية، واستنطاقه للمظاهر التي شكّلتْ وعيه، وثقافته. فيظهر التعبير الأصيل، والبعيد عن التكلف، والافتعال لدى الفليح جليا في نصوصه عبر اتكاءه على عناصر المكان الصحراوي التي تحدثنا عنها لكن مع منحها دلالات مختلفة، وإيحاءاتٍ جديدة.

وبالعودة للسياق الزمني الذي أرّختْ فيه نصوصه، فإنني أراه سابقا للعديد من الأسماء التي تم تكريسها لنا كآباء للقصيدة الحديثة في السعودية. وأعود لأسأل في خاتمة هذا المقال: كيف غفل النقد السعودي عن شاعر سعودي بقيمة سليمان الفليح؟ داعيًا وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة بإعادة طباعة أعماله الكاملة تكريمًا لهذا الشاعر العظيم الذي رحل في الـ21 من أغسطس من عام 2013 تاركًا خلفه صوت ربابته الشعرية، شاهدا على غياب قصيدته القاسي.


نقرأ من ديوانه " أحزان البدو الرحل":

"يعذبني أن غيما كثيفا إذا اعتم القلب و(اغتم)

يأتي بذهني كثيفا

كثيفًا

بطيءْ

ويحزنني أن رعدا يهز جبال العذاب بقلبي

عنيفًا

عنيفا يجيءْ

ويقتلني إن برقا

يشع بصحراء روحي

ولكنه لا يضيءْ" نشر هذا المقال في صحيفة عكاظ بالتزامن مع الذكرى التاسعة لرحيله في 21 أغسطس من عام 2022 ضمن مادة شارك فيها آخرون https://www.okaz.com.sa/culture/na/2112832

تاريخ التحديث: 17 ديسمبر 2020

أضع یدي حیث لا أعلم، وأصغي إلى بقایا جسدي وهو یلفظ أیامه المتعبة، أضع یدي حیث لا أعلم حیث تمتحن الحشرات النحاسیة ظلالها والأوراق الملونة ما تبقى منها لم یعد أحد من نفسه قبل الآن ولم أذهب أنا أيضا أدرب أشياء الروح على أن تظل أشياء الروح فقط شعري أن يظل وفيا لأسلافه أضع يدي حيث لا أعلم أضعها حيث الحروب تفتك ببلادي حيث ينام الحزن والألم حيث تستدير الحياة على نفسها كأفعى حيث تستيقظ الذكريات البليدة والفواجع والنوائب وكل ما يخزُ القلب دفعة واحدة ماذا أسمي هذا الصقيع الشديد الذي يتقاذفني فيما بينه؟ ماذا أسمي هذا الخواء الذي يجرني من قدميّ؟ أفلتُ نفسي كمسحول، وأسلم نفسي لما سيحدث لن أصارع التيار، ولن أقف في وجه العاصفة لي من التجاعيد ما يعيق القوافل على أن تكمل سيرها لي من الخيبات ما يكفي للإطاحة بقبيلة من الصعاليك ولي من كل شيء.. ما أريد ثمة داخلي ما ينقفل وينفتح لمحض إرادته ثمة ضحايا يصرخون بثاراتهم، ومعذبون ثمة أجراس لا تكف عن القرع آلهة تسخر من قاتليها ثمة ما يجعلني فاغراً كالأبدية وحزينا كنهر جفّ منذ زمن ثمة ما يجعلني خائفا ومهزوما ومنتصرا ثمة ما يجعلني أضع يدي حيث لا أعلم


Follow Me
  • YouTube Social  Icon
  • Facebook Social Icon
  • Twitter Social Icon
  • Grey Google+ Icon
لقد نصبتُ فخًا للحياة .. عندما قررت أن أكتب 
نافذة أخرى 
آخرإصدارات الكاتب 
غرف تنتمي لأصحابها غلاف.jpg
Full Cover.png
  • Facebook Social Icon
  • Black Twitter Icon
  • Grey Google+ Icon
bottom of page