top of page

الغياب القاسي لقصيدة الفليّح *

  • صورة الكاتب: Abdullah Obaid
    Abdullah Obaid
  • 26 أغسطس 2022
  • 4 دقيقة قراءة


ree

يمكنُ للحياة أن تتفادى الموت إن أرادتْ أو أنْ تقارعهُ، وربما تحرمه من مهنته الأبدية. إلا أنها لا تستطيع تفادي شاعر يصرخُ في برية الله. أقول هذا وأنا أتعجبُ من تفادي المشهد الشعري، والثقافي السعودي للشاعر الراحل سليمان الفليح بطريقة تدعوني للرثاء البارد لهذا المشهد الذي يتنكر لفكرة الأصالة الشعرية. فحيث تزدحم المدونة النقدية بقصص أبطال الحداثة، وتجترها بطريقة سينمائية مملّة تتجاهل تجربة الفليح الكبيرة، هذه التجربة التي قدمت النص الجديد، باعتبارها جزءً لا يستطيع الفكاك عن محيطه العربي، غير متناسية رائحة الخيمة، أو صوت الربابة، بل حاملة الشخصية البدوية بكل تعلاتها، وحسناتها إلى أفق آخر، عبّرتْ عنهُ التجربة بكل عُرْيٍ، وحريةٍ، وصدق.


لقد حمل الفليح المكان، والزمان في شعره، حمل كل الموجودات التي تفاعل معها لتكون تجربته الشعرية تعبيرًا عن هذا التفاعل الخاص، والمميز بينه وبينها. وظل يراوح في تعبيره هذا بين الكتابة المقالية والشعرية، فصيحةً كانت أم نبطية.


إنه من نافلة القول أن نذكر بأن المزاج النقدي في الأساس، يظل محكوما بالذائقة، وهذا ما لا يمكن إنكارهُ. ولكن المزاج النقدي، قد يتعمد أن يتجاهل تجربة مميزة لأسباب لا علاقة لها بالفعل النقدي، لكنه لا يستطيع أن يتفادى تجربة كبيرة ومؤثرة كتجربة الفليّح، إلا عن جهل وعدم مواكبة لما يُنشر، أو أن المزاج النقدي العام يخضع لما هو خارج النص بالدرجة الأساس ولا يُعنى بقراءة التجارب الإبداعية لذاتها؟


هناك اتهام كلاسيكي يوجهه عدد لا بأس به من الشعراء دائما، للفاعلين في الحركة الشعرية والثقافية، تتلخص في فكرة "الشللية" التي أتحفظ تجاهها شخصيا، فكل من لم ينل حظه من الحضور الشعري، عزا السبب إلى كل شيء عدا نصه، وهذا لا يعني وجود بعض الحالات التي حصلت على الضوء بعد وقت طويل من الإهمال، والتجاهل. لكنني بدوري أود في هذه المساحة مساءلة جدوى التكريس في النقد الأدبي الذي يعنى بالشعر السعودي المعاصر. أعني ذلك الذي يتحدث عن جماليات القصيدة السعودية الحديثة، ويبحث في سماتها. دون أن يضع الأسئلة الأهم في نظري على الشعر والشاعر السعودي. عن ماذا يكتب الشاعر السعودي؟ ما الذي يمنح القصيدة السعودية ثوبها؟ هل أبدو مغاليا عندما أطرح أسئلة كهذه على التجربة الأدبية السعودية وأحاول قياس مخرجاتها وفقا لمدى إجابتها على هذين السؤالين؟

ثم هل انفتاح الشاعر على الكتابة في ألوانٍ أخرى يحد من أهمية المنجز الشعري، أم يضيف للتجربة ثراءً، وتنوعاً؟ إن تجربة الفليح امتدّتْ لتصل الشعر النبطي، والكتابة السياسية وحتى اليومية. ولعلي أسأل هنا هل أكلتْ المساحات الأخرى التي حاول الفليح طرقها حصته من حضوره الشعري؟ لماذا لم تلمع قصيدته كما لمعت قصائد مجايليه؟ إنني في ذكرى رحيله هذه لا أود أن أكون عاطفيًا بقدر ما أود أن أكون منحازًا ، لعمق تجربته التي أدهشتني شخصيًا، والتي أستغل هذه المساحة إلى الدعوة إلى إعادة قراءتها وفق سياقها التاريخي، وتقييمها إلى جانب تجربة القصيدة الحديثة، وتطورها في المملكة العربية السعودية.


هناك زعم يشاركني فيه الكثير من زملائي الشعراء المجايلين لي يتلخص في أن: الشاعر السعودي بعد أن انتهى من التعبير المحافظ، اتجه للتعبير الرومانسي، وعندما تلقف حركة قصيدة التفعيلة، حاولتْ بعض الأسماء فيه كتابة القصيدة الرمزية كما في بعض أعمال "سعد الحميدين" و "محمد العلي" ثم ظل يراوح ضمن مستويات مختلفة في التعبير عن قلقه وهواجسه، بطريقة جعلت الكثير من الشعراء متطابقين سواءً في استخدام المفردات، أو في الاستفادة من دلالاتها كالـ"مرآة، والطين، والناي، وغيرها". وضمن هذا المستوى ظهرتْ تجارب حاولت منح القصيدة السعودية ثوبا يميزها، مستثمرة عناصر المكان، مستخدمة الصحراء، والنخل، والشيح، والخيمة وكل العناصر التي تشير إلى سمة البداوة في الشعر، ولسان حالها كما قال الشاعر القديم:" وفي البداوة حسن غير مجلوبِ" حاملةً في نصها ذات القلق الوجودي المشترك، دون أن تظهر سمات جادة تميز التجارب الشعرية عن بعضها، هذا مع الإشارة إلى بعض الاصوات التي حاولت التغريد بعيدًا عن أسلافها، وقامت بمراكمة رصيد يستحق الاحترام، وسوف نتعرض لها في وقت آخر. إن المفارقة المثيرة للسخرية تكمن في أن الشعراء في المحيط العربي كانوا يمرون بتقلبات سياسية، واجتماعيةـ، وتراجيدية جعلتْ الكثير منهم ينشد الاستقرار ليتفرغ لمشروعه الشعري، باعتبار الاستقرار، والأمن سيدفع تجربته الإبداعية إلى مناطق لن يصلها وهو يعيش الاضطراب. بينما الشاعر الذي ظل ينعم بوضع سياسي واقتصادي، واجتماعي مستقر ودافعٍ للنظر في التجربة الإبداعية بهدوء، ودون منغصات ظل يبحث عن موضوع لتجربته الشعرية، وهذا الأمر ليس انتقاصًا للعملية الإبداعية لكثيرٍ من الشعراء الرائعين لدينا، ولكنه سؤال للنقد الأدبي السعودي، لماذا غفل عن دراسة جوهر مشكلة التعبير الشعري في السعودية؟ والتي نجا منها الشاعر سليمان الفليح، الذي أزعم بمقالي هذا أنه استطاع الإجابة عن سؤال مضمون التجربة الشعرية كشاعر سعودي في المقام الأول، وشاعر عربي يعرف متى يتفاعل مع الهم المشترك، ويعرف متى يعبر عن الجواني. فإننا نجد في تجربة الفليح، والتي أدعو فيها إلى الالتفات إلى طرائق تعامله مع الرموز التراثية التي تنتمي للجزيرة العربية، واستنطاقه للمظاهر التي شكّلتْ وعيه، وثقافته. فيظهر التعبير الأصيل، والبعيد عن التكلف، والافتعال لدى الفليح جليا في نصوصه عبر اتكاءه على عناصر المكان الصحراوي التي تحدثنا عنها لكن مع منحها دلالات مختلفة، وإيحاءاتٍ جديدة.

وبالعودة للسياق الزمني الذي أرّختْ فيه نصوصه، فإنني أراه سابقا للعديد من الأسماء التي تم تكريسها لنا كآباء للقصيدة الحديثة في السعودية. وأعود لأسأل في خاتمة هذا المقال: كيف غفل النقد السعودي عن شاعر سعودي بقيمة سليمان الفليح؟ داعيًا وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة بإعادة طباعة أعماله الكاملة تكريمًا لهذا الشاعر العظيم الذي رحل في الـ21 من أغسطس من عام 2013 تاركًا خلفه صوت ربابته الشعرية، شاهدا على غياب قصيدته القاسي.


نقرأ من ديوانه " أحزان البدو الرحل":

"يعذبني أن غيما كثيفا إذا اعتم القلب و(اغتم)

يأتي بذهني كثيفا

كثيفًا

بطيءْ

ويحزنني أن رعدا يهز جبال العذاب بقلبي

عنيفًا

عنيفا يجيءْ

ويقتلني إن برقا

يشع بصحراء روحي

ولكنه لا يضيءْ" نشر هذا المقال في صحيفة عكاظ بالتزامن مع الذكرى التاسعة لرحيله في 21 أغسطس من عام 2022 ضمن مادة شارك فيها آخرون https://www.okaz.com.sa/culture/na/2112832

تعليقات


Featured Review
سوف تأتي المنشورات قريبًا
بمجرد نشر المنشورات، ستراها هنا.
Tag Cloud
  • Facebook Social Icon
  • Black Twitter Icon
  • Grey Google+ Icon
bottom of page