top of page

نداء اللحم

  • عامر أحمدي أريان- ترجمة عبدالله عبيد
  • 20 يناير 2019
  • 10 دقيقة قراءة

سيدي العزيز إنني لا أذكر اسمك، وربما لن تذكرني. ومع ذلك سوف تتذكرني بلا شك إذا قلت لك .أنني الصبي الذي ، قبل عشرين عاما، قام باقتطاع قطعة من لحم ذراعك يجب أن تكون صورة الوحش حاضرة في رأسك الآن. قد تشعر بالألم الجسدي، وبقايا ما اختبرتهُ عندما كنت أغرز أسناني في جسدك. يؤسفني ذلك. لكن دعني أكون واضحا؛ هذا ليس اعتذارًا. هذا تعويض. بينما تواصل الخلايا السرطانية هياجها في جسدي، أكتب هذه الرسالة لأشاركك قصة تحرري، وأعلمك أن تحرر نفسك. إذا كنت تقرأ هذه الرسالة بحرص شديد، فسوف تصبح حرًا ، وستتخلص من الشراك التي تجر انسانيتك إلى الأسفل نحو سهلٍ عالٍ وذلك عوضًا عن الألم الذي ألحقته بك. كنتُ قد أصبحتُ أشبه الوحش عندما كنا جيرانًا، ولكن عليك أن تعرف أنني لم أولد هكذا. فكما قيل بدأ هذا التشوه ينتابني بعد وقت قصير من عيد ميلادي الثالث. كان نموي قد توقف لمدة عام تقريبا. ثم بدأ ظهري يحدودب ببطء، وكأن أحدًا ما يبني عليه تلة نمل، ثم بدأت يدي بالنمو ووصلت إلى ركبتيّ. وعندما بلغت السابعة بدأت أسناني تنمو للخارج، لدرجة أنني ألم أستطع اغلاق فمي بالكامل. أصبحت الأنياب ضعف حجم أسناني، أي ثلاثة أضعاف حجم أسنان البالغين . حاولت أن أغلق فمي كاملًا لكنني لم أستطع وهذا ما سيجعلك تستمر في رؤية نابين مُصْفرّين بارزين . هذه هي الطريقة التي ستذكرني بها. لكنني تغيرت بشكل كبير. حدث تحول بين عشية وضحاها، وهو اليوم الذي أصبح فيه لحمي حرًا. سأخبرك بهذه القصة إنني أحب أكل اللحم النيء وحده. عندما كنت طفلا قمتُ برفض الطعام لأشهر عديدة، مما اضطر والداي إلى أن يطعمانني لإبقائي على قيد الحياة فقط. وكان أول شيء أكلته طوعا قطعة من لحم خروف التقطها من طبق أبي، و تذوقتها بطرف لساني، لاحظ والداي أن عيناي أشرقتا بينما كنت آكل، مما دفعهما لإعطائي قطعاً كبيرة من اللحم قبل أن أكبر قليلا. إنني أفترضُ أن والديك، مثل غيرهم من الناس في الحي، يلومون والديّ على ما أُصبتُ به وما فعلته كان ذلك حقًا ظلما كبيرا . والحقيقة أنهم لم يكونوا يملكون طريقة أخرى لإبقائي على قيد الحياة فيما بعد نمتْ شهيتي تجاه تناول اللحم النيء. في السابعة أخرجت أكياسًا من اللحم المجمد من الثلاجة، وخرجتْ إلى الفناء الخلفي، وضعتها تحت الشمس، وانتظرتها لتذوب، جرب ذلك بنفسك. إنه مشهد لا ينبغي تفويته.. يتفتّح اللحم بلطف، يصبح ناعمًا، يستعيد لونه، يتلألأ بالدم، وكأنما يستعيد حياته. إن أفضل لحظة هي عندما تتم إذابته لا عندما يكون دافئًا. ابدأ بأكبر قطعة يمكن لفمك التعامل معها. املأ فمك باللحم، واشغل أسنانك، وافرك اللحم على كل فمك بأكمله. وبعد النهشة الأولى لا تتوقف .. استمر ولكن بأجزاء أقل من الأولى، استمر لا تتوقف، ستطيل استمتاعك بهذه الطريقة، دع الاحساس يسافر في جميع أنحاء جسدك كنت أحب أكل كبد الخروف. اعتدتُ على سرقة النقود من جيب أبي والتسلل إلى متجر الجزار لشراء قطعة من الكبد. ثم الذهاب بعد ذلك إلى زقاق فارغ والامساك بها ومراقبة انعكاس الشمس عليها. هل سبق لك أن اهتممتَ بكبد الخروف؟ إن لها سطحًا أملسًا. كنتُ أقضي عدة دقائق في تمسيدها. حقا إنهُ شعور سماوي لا أملك الكلمات التي يمكن أن تصفهُ. ثم أقوم بتمرير لساني عليها ببطءٍ شديد، وبحنان شديد أيضا، للسماح لطبقة الدم بالتسرب إلى الأنسجة الموجودة في لساني !!ثم أتى ذلك اليوم.. اليوم الذي هاجمتك فيه لقد حرمتني التشوهات من لعب كرة القدم، لكني كنت دائما أتوق إلى فعل شيء ما والمساهمة في اللعبة. ربما تتذكر كيف كنتُ قبل ذلك اليوم المشئوم، حيث لعبتُ مرة دور الصبي الذي يطارد الكرة. وفي الوقت الذي كنتَ تلعبُ فيه في الشارع، كنتُ أقف خلف أحد المرميين، وأنتظر أن تغادر الكرة الملعب لتركض أنت كالقرد خلفها لتعيدها في ذلك اليوم، وفي وقت مبكر من اللعبة، ركل أحدهم الكرة إلى خارج الملعب . توقفتْ عند قدميّ، ثم أتيتَ أنت راكضا خلفها. قمتُ بالتقاط الكرة، لكن يدايّ تجمدتا. لقد كانت كرة قدم عادية. يمكن الحصول عليها من أي مكان. لكن اللون الذي كان عليها بدا لي غريبًا وفريدًا ربما ستفضل تسميته بالأحمر، لكنه لم يكن الأحمر. كان لذيذًا. لا هو بالأحمر الداكن أو البني. إنه كبدي. لون فريد يشبه لون لحم الخروف. كنتُ أعتقد أنه من المستحيل أن يتكرر ذلك اللون، حتى تلك اللحظة التي أمسكتُ بها الكرة أمام عيني. فكّرت بمبدع هذا اللون. تخيّلتُ رجلا يشبهني جدا. يغمّسُ الفرشاة في دلو من الكبد السائل، ويضرج الكرة به. مما منحها هذا اللون. رأيتُ الخطوط الكبدية تغادر الكرة، وتستحوذ على رأسي، تتخلل مسامي، تتردد حول رأسي، تتراجع الألوان وتهتز صعودا وهبوطا في الهواء. آخذةً شكل كبد خروف عائمة ثمّ فجأة قمتَ بدفعي. كنتَ على حق نعم إذا ذهبتَ إليها قبلي، لكنني لم أرك تقتربْ. سقطتُ على الأرض وتلاشتِ الصور. نظرتُ ورأيتك. أنا آسف لكوني مباشرًا، لكن أول ما لفتَ نظري هو قبحك، أنفك الأحمر الكبير، بشرتك البائسة ذات البثور، خبثك الشديد. كان جسمك عبارة عن نموذج لمن بلغ متأخرًا، والذي يظهر بشكل أشد وضوحا في مزاجك الناري. "ارم الكرة أيها الغريب الأحمق" هكذا صرختَ. وقبل أن أتمكّن من الرد عليك، انتزعت الكرة من قبضتي وأضفتَ بانفعالٍ شديد " أنت أبله سخيف" وذهبتَ بعيدًا سيدي، لأكن صريحا معك، ما زلتُ لا أعرف ما حدثْ. ستعترفُ أن رد فعلك كان قاسيا، لكنه بالتأكيد ليس مبررًا لما فعلتهُ. لقد تعلمتُ كيف أكبح جماح نفسي عندما يثور الآخرون. لكنني لم أحسن كبحها في ذلك اليوم ربما تتذكر بوضوح، أنك عندما استدرتَ للانضمام إلى رفاقك هاجمتك من الخلف وأمسكتُ بمعصمك، وغرزْتُ أسناني بذراعك واقتطعتُ قطعة من لحمك ومضغتها واستمتعتُ بها، دعك من الدم الذي كان يقطر من فمي، لقد رأيتك تتلوى وتنسحق على الأرض، وتصرخ مثل ذئب مخصي بعد ساعة، جئتَ أنت و والداك إلى بابنا. وجاءت كذلك عائلات باقي الفتيان الآخرين. وأتت الشرطة، وانضم المارة والجيران إلى الحشد. كنتُ أشاهد هذه الدراما من خلال شق في الستارة. لم أتمكن من سماع الكلمات، لكن الحشد كان غاضبًا، وهذا ما جعل جسدي يرتجف. يجب عليك أن تتذكر اللحظة أفضل مني. لأنك سمعتهم. كان الجميع، بما في ذلك المارة، على استعداد لشنقي في الحال. رأيتُ والدتي بعد ذلك تنزل لتفتح الباب. اختبأتُ في غرفة نوم والدي، أغلقتُ الباب وزحفت إلى أسفل السرير. قامت أمي بتهدئة الحشد، وأقنعتهم بالرحيل. وعندما تفرقوا كان أبي قد وصل، ويجب عليه أن يكون قد سمع القصة بالفعل، لأنه جاء لي مباشرة، وجرّني على الأرض في غرفتي وضربني ضربا مبرحا وأغلق عليّ الباب لم يُسمح لي بمغادرة الغرفة لمدة خمسة أيام. كانت أمي تأتيني في كل بضع ساعات بالطعام والأخبار. أعرف فقط أن أبي تحدث إلى عائلتك لمدة يومين. وعلى نحو غير عادل جعلتْ عائلتك أبي يدفع مبلغا كبيرا من المال، أكثر بكثير من أي شيء يمكن له أن يتحملهُ، أكثر من أي شيء كانت المحكمة ستحكم به. لقد شعر والداك باليأس، إثر جهوده لإبقاء المسألة خارج المحاكم، واعتبروه مستفيدًا من ذلك. ربما كان لك رأي مختلف، لكن هذا هو الأمر كما بدا لي من وجهة نظري في اليوم التالي باع أبي سيارته، واقترض أموالا من أخيه، وقام بسحب بقية مدخراته. بعد يومين، اشترى كوخا و بعد يوم من كل هذا، فُتح الباب لغرفتي. وقف على العتبة وظل يحدّق فيّ طويلا. فتح فمه مرتين ليقول شيئاً ولكن لم يخرج شيء من فمه. ثم انفجر بالبكاء، هزّ جسده واشتدّ. انهار على الأرض، اتكأ على الحائط، وجمع ركبتيه إلى صدره، محيطا رأسه بيديه، مهتزًا ذهابا وإيابًا أخيرًا نهض وطلب مني مرافقته إلى غرفة الجلوس، كانت أمي قد حزمتْ أشيائي، كانت تبكي وهي تنزل رأسها للأسفل كي لا أراها. " أراك قريبًا" .. كان هذا الشيء الوحيد الذي قالته، ثم عادت إلى غرفتها دون أن تمسّني. سمعتُ صرخاتها المكتومة في الوسادة. التقطتُ بعدها الحقيبة. كان هذا آخر يوم لي في المنزل الذي عشتُ فيه طوال حياتي،كان آخر يوم لي في الحي الذي ترعرعنا فيه أنا وأنت، ومع ذلك لم أشعر بشيء. مجرد حزن حلو، وشعور مبهم بالراحة الكوخ كان بعيدا عن المدينة. إذا اقتربتَ من المدينة من الجنوب وتطلعتَ إلى يمينك على بعد خمسة أميال من محطة القتلى، فستكتشف كم هو موحش هذا المكان، إذ المسافة بينه وبين أقرب جارٍ لي قرابة الميل . جلسنا في السيارة بعض الوقت. كان المنظر الطبيعي أرضًا خاوية مبعثرة مع بعض مواقع البناء المهجورة والمصانع البائدة. أعطاني أبي حزمتين من الفواتير قائلا : " أنا أعلم أنها ليست بالكثيرة ، لكن هذا كل ما لدينا.. آنا آسف. ثم بقينا صامتين. فجأة قال: "أتعلم، أعتقد أنه قد حان الوقت الذي عليك فيه أن تعيش وحدك، إنه أصعب قرارٍ اتخذناه أنا وأمك على الإطلاق. فعلنا كل ما في وسعنا لتجنب هذا اليوم. العيش معنا في المدينة ليس خيارًا. سيؤذيك الناس." توقف فجأة واقترب مني، سعيا للحصول على رد مني. كان علي أن أقول شيئا لكنه أردف قائلا : " أنا متأكد أنك ستكون طبيعيا قريبا"، مضيفا أنه لم يحاول حتى التظاهر بأنه يصدق ذلك. "سأحاول أن أطمئن عليك أسبوعيا" وكانت هذه كذبة أخرى كان الكوخ عبارة عن غرفة صغيرة وحمام. لا يوجد مطبخ أو خزانة، كان أشبه بمكان إقامة مؤقتة للعمال. في الأسبوع الأول، كنت أنام عشر ساعات في الليلة. نوم عميق خالٍ من الأحلام، كأنني لم أنم لأشهر. استيقظتُ في وقت متأخر من الصباح وسرتُ لمدة ساعة للوصول إلى رمز الحياة الوحيد في الجوار.. أربع بنايات شاهقة حول ميدان صغير محاطٍ بمتاجر، وأماكن لتناول الطعام. أصبح هذه الميدان ملعب صيدي. كل يوم كنت أتمشى فيه، تجولت في أرجاء المكان لساعات، لاحظت الناس ونوافذ المحلات، بحثتُ عن الطعام. لم يدهشني أن الناس كانت تنظر لي بريبة، لأنهم فوجئوا بظهوري بينهم كغريب، لكنهم قبلوني بسهولة أكثر بكثير من الذين نشأت معهم. كنت فقط مجرد متشرد مهووسٍ بالبحث عن الطعام، في غضون بضعة أسابيع، اختفت ملامحهم العابسة، ونظراتهم المستهجنة، واستُبدلَ كل هذا بالابتسامات، وربما بعض الأحاديث القصيرة أحيانًا، بعضهم أطعمني نصف سندويش، والبعض ما تبقى من حفلاتهم. مرة أكلت سلة من أجنحة الدجاج التي كان قد أُكل نصفها. حاول البعض معرفة كيف انتهى الأمر بي عندهم. كنت أجيب على استفساراتهم بهدوء وأناقش بتردد انتقالي من بلدتي الأولى. وفي يومٍ خريفي بارد كنت أقف على الرصيف، محاولًا أن أحظى بأشعة شمس الظهيرة. كانت هناك شاحنة تقف على بعد خطوة مني. ترجل منها شخصان من الخلف. قاما بارتداء قفازاتٍ صناعيةٍ سميكة، وجلبا مرآة كبيرة من الشاحنة، قاما بحملها على طول الرصيف. قمتُ بإلقاء نظرة على المرآة، فألفيتُ وجهي منعكسًا فيها، لم أكن قد رأيتُ وجهي منذ أشهر، لأنه لم يكن في الكوخ أي مرآة، وكنتُ فقط قد اكتفيت بانعكاس وجهي على واجهات بعض المتاجر. تابعتُ المرآة وحامليها وصولا إلى متجر لبيع الزجاج. فوجئ مالك المتجر عندما وقفتُ في مدخل المتجر. قلت له: "أريد أن أرى نفسي في المرآة". فدعاني للدخول. لم يتغير جسدي بعد. كنتُ ما زلتُ أحمل ذات الشكل، لكنني بدوتُ مختلفًا، كان تصوري لنفسي مختلفًا. بدتْ أنيابي المتعرجة مثيرة للإعجاب، سولت لي نفسي أن مظهري يظهر براعتي، وأن شكلي باعث للتسلية وأن النظر إليّ جميل أستطيع أن أتخيل أن تواجه صعوبة في تصديق ما تقرأه. إنك لا تتفاجأ مما أذكر، أنت انسان عادي، طبيعي، مما يعني أنك تعاني من فشل شديد في المخيلة كنوع. البشر مملون جدا ومتجانسون إلى حد بعيد. أنتم لا شيء سوى المليارات من الدلاء المملوءةٍ بأنواع مختلفة من الشراب. لا يمكنكم فهمي أبدًا، أنا فريد من نوعي، أنا فوقكم في الأسبوع التالي، ظهرتْ شاحنة أخرى كان يوماً خريفياً مشمساً وباردًا أيضا، توجهتْ شاحنة صغيرة بيضاء مبردة إلى الساحة، وتوقفتْ أمام متجر الجزار. فُتح الباب الخلفي، خرج رجلان، قاما بسحب جثةٍ من الثلاجة، وأخذاها إلى المحل. أثار لون اللحم شهية نائمة بداخلي، اقتربت للحصول على نظرة أفضل. كانت خمسُ جثثٍ من العجول الطويلة تتدلى من خمسة خطافات مغلّفةٍ بشكل جعلها جذابةً، وهي في بخار الثلج. بينما كان الرجال يُتِمون أمر حسابهم مع الجزار داخل المتجر، اقتربتُ و مددتُ يدي، قمت بلمس اللحم الموجود على أرضية الشاحنة المبردة، أشرقتْ عيناي، وتجمدت أصابعي في الهواء.

كانت كبد خروف كبير على الأرض، وفي منتصف الكبد استقرت عين ما. عينٌ حقيقية كاملة متألقة، ينقصها جفن، كانت صلبة وصغيرة، ثابتة كمؤخرة غير متناسقة لتلميذ كبير تعكس كل الضوء القادم من السماء. لاحظت ارتعاشًا خفيفا في التلميذ كما لو أنه على وشك أن يذرف الدموع. تراجعتُ، نظرتُ حولي، قمتُ بهزّ رأسي للتخلص من خيالاتي. بقيتْ العين على الكبد، كصخرة على أفق مسطحٍ. حاولت الكبد التواصل معي.. لكن، لحظة خروج الرجال من المتجر. خطفتُ الكبد من الشاحنة وركضتُ بعيدا. تجولتُ في أرض قاحلة، وأنا أحدّقُ في عين الكبد. ظلّت العين محدقةً، ارتجافها طفيف، لا تناسقها، براءتها. كلما حدّقتُ في العين كلما شعرتُ بآلام وركلات في الداخل، شيء ما يضغط ويضغط، إنه يكافح كي يولد. بقيت الرسالة غامضة. إنها في رأسي، هناك ضجةٌ في جدران جمجمتي، شيء ما يحاول الخروج، إنه على أطراف ذهني، إنه الماضي يتدحرج. ظل جسدي يهتزّ رغمًا عني، كما لو أن أجهزتي نظمتْ انقلابًا ضد ذهني . أغلقتُ عينيّ و وجّهتُ تركيزي لقمع الثورة. عندما فتحتُ عينيّ مرة أخرى، كان العالم "كبديًا"، الأرض، السماء، المباني، كلها كانت على ما يبدو امتدادًاللكبد التي أمسكها بيدي. الأرض القاحلة صُبغتْ من جميع الجوانب بنفس لون كرة القدم تلك، وكأنما تـمّ سحب طبقةٍ من الكبد وتلطيخ العالم بها، من الخنفساء التي كانت تحت الصخرة الصغيرة بجوار قدمي، مرورًا بالصخرة نفسها وحتى أبعد نقطة في نظري.. خط التقاء السماء بالأرض. ثم فجأةً سمعت شيئا. مزّق الضجيجُ العالي طبلة أذني. صوت انفجار هزّ جسدي بقوة. أطرافي تطوقني، ذراعي الأيسر طار أمام وجهي. فمي فُتحتْ. أنيابي تخترق اللحم. تبعتْ أسناني الأخرى أنيابي. وقطعةً فقطعة.. تدفق الدم حول أصابعي قطعتها فاختفت تحت قدمي في الأرض الكبدية. كنتُ لا أزال أقف في وسط عالم كَبِديّ، قطعة من لحمي في فمي، أخرجتها. نظرتُ إليها، كان حجم القطعة تقريبا مقاربًا لحجم الجزء الذي اقتطعتهُ من ذراعك. رميتها بعيدًا وانهرتُ على الأرض. لقد تم فتح رموز الرسالة. فتحت الكبد عينها عليّ لأنها وجدتني على استعداد لاتخاذ الخطوة الأخيرة. قفزتُ ومشيتُ صارخا بأفكاري في الصحراء الصافية: نحن لا شيء سوى ترتيب معين من الأعضاء الحية المرتبطة بالعظام. أما البقية فهي واجهة.. الرؤية، الانفعالات، الغضب، الحب، وضعها الذهن لإخفاء هذه الحقيقة الجسدية. اللحم هو ما أنا عليه. اللحم هو ما أنت عليه. لكن الكبد لن تفتح لك عينها يا سيدي. إنك لست مستعدًا لذلك. ولا أي عضو من أعضاءك مستعد لذلك. لقد ولدتُ مستعدًا لذلك منذ اليوم الأول. كان لحمي يدير كياني منذ اللحظة الأولى. فتحت الكبد عينها الخارجية لأنها رأت من أنا. أنا ما أنت عليه عندما تُفك قيود الجسد. في طريقي إلى المنزل، فكرتُ بك. أعدتُ استحضار اللحظة التي اقتطعتُ بها ذراعك بفكيّ، كما لو كانت شاشة تتدلى خلف الخلفية الساطعة للسماء. إنني أشعر بالأسف تجاهك. لقد قمتُ بتذكيرك بكل تفاصيلك: عيونك الصغيرة وفمك الكبير، وجهك الفاسد، أطرافك الضيقة قد تبدو أفضل الآن ولكنك كأحد أفراد أنواعك، لم تتغير طبيعتك الأساسية. أنت لا تزال مرتبكًا للغاية.. يظهر هذا في حواسك المكسورة، التي أُعميَ بها عقلك الفقير، الذي يتأثر بشدة بغرورك، أنت ضعيف جدًا، ضعيف لتحدق في الهاوية التي بداخلك. في اليوم التالي ذهبتُ إلى الساحة وعدتُ بحبل سميك طويل. قمت بربط نفسي بالكرسي، جسدي بأكمله، الساقان والجذع. قمتُ بربطهما وضيقت الرباط جدا، لم أترك أي مجال للحركة. ثم دفعت ساقيَّ بعكس اتجاه الحبل، عندما تفعل ذلك، هذا يعني أن جسمك يريد التحرك لكنه يفشل، ونتيجة لذلك، تُفتح عينك الداخلية وينتقل التركيز إلى العضلات التي فشلت في التحرك. ظللتُ أدفع، ومع فشلي المتكرر في التحرك، ازداد وعي اللحم بقيوده، وطور الرغبة في التخلص منها. واصلت الدفع طيلة يومين وسبعة عشر ساعة، بعد كل هذا الوقت، قرر جسدي أن يأخذ ردة فعل، شعرتٌ أنني أصبحتُ لينًا مثل لبّ ثمرة. انتابني هبوط، شعرتُ وكأنما لا شكل لي . ثم جاء ذلك الضجيج، نفخة من الداخل، هذا نداء الجسد. يجب عليك فعل نفس الشيء يا سيدي. اذهب إلى مكان بعيد عن الوجود البشري. اترك كل شيء خلفك. الكرسي والحبل، والمأوى هو كل ما تحتاجه. اربط نفسك بالكرسي، بحيث لا تكون هناك عضلة واحدة قادرة على الحركة. ادفع بعكس اتجاه الحبل.. ادفع باستمرار، ساعة بعد ساعة، أتبع الليل بالنهار. إذا استمريتَ بقوة في الدفع لفترة طويلة، ستصل إلى اللحظة التي يُخلِّصُ فيها اللحم نفسهُ من العظام ويطفو بحرية في جسدك. ما زلت مربوطًا، لكن الحركة بداخلك تخرج عن سيطرتك. عندما تصل اللحظة، الصراخ سيعلو رئتيك، إذا التقطتها بشكل صحيح، فسوف تشعر بانزلاق اللحم وأن دماغك قد توقف. اصرخ.. سوف يتنفس الجسد ويهتزّ حتى النخاع. إذا لم يحدث ذلك.. لا تدع اليأس يهزمك. اصرخ اجعل اللحم أكثر مرونة، امنحه الحرية.. اصرخ، يجب أن يصبح جسدك حوض ماء للحمك. استمر بالصراخ. اصرخ من تحت الحجاب الحاجز تحت رئتيك مباشرة. اصرخ لا تتوقف. ستعرف متى عليك التوقف وحلّ رباطك. في هذه اللحظة سيكون لحمك حرًا ، يتوقف عقلك عن إملائك كيف ترى العالم. توقف عندما ترى من ركبتيك. أو معصميك، استخدم مرفقك في التفكير، اضحك من كليتك، اصرخ من أصابع قدميك. توقف عندما تسمع من فخذيك. تجشأ من عمودك الفقري، اهمس من خصيتك. فك رباطك واشعر بهذا العلو. هبوط جسمك على السهل العالي . أعلى بكثير مما يجرّ انسانيتك إلى الأسفل. سوف تفكر بي في تلك اللحظة، وتُقرّ بأنّ ما علّمتك إياه يستحقُ أكثر بكثير من قطعة صغيرة من لحمك. المخلص لك .


Comments


Featured Review
سوف تأتي المنشورات قريبًا
بمجرد نشر المنشورات، ستراها هنا.
Tag Cloud
  • Facebook Social Icon
  • Black Twitter Icon
  • Grey Google+ Icon
bottom of page