
كان للجسد عاصفةٌ، وكان للطريق رأس أعرف ذلك لكن المسافة ما بيننا لم تكن أبعد من عصفور بكِ لوحتُ للعالم بلا يدين ونظرتُ للنهاية من علٍ كما ينظرُ الصقر لفريسته بكِ عرّيت جبال القلب ونزفت كصوت ظامئٍ في براري الله حييتك بالنرجس والأقحوان بغموض الأخضر الذي تحبين بقطارات الصمت الأبدية بالملوحة التي تقطر من جبيني سميتك النهر فلم تبالي بالأسماك سميتك الشجر فلم تبالي بالأنساغ أغلقت الأبواب ولم أفتح نافذة واحدة في وجه الصحراء، فمن أين أتيت ؟ حاملة جوع الشمال والغيوم الثقيلة من أين ؟

لـم يقف أحد في طريقه يوما ولا وقف هو في طريق أحد وكان إذ يمشي لا يتخلّى عن نظرات الآخرين لـم يشفق الآخرون عليه يوما، هو الذي كان يشفق على القطط الـجائعة و النيازك التي تنتحر فـي الأراضي الجرداء ..مر زمن بعيد جدا منذ السمكة الأولى :يقول هو الذي يتذكر كل شيء كمن ينسى كل شيء "ولدتُ بلا مكان فلستُ هناكَ لكي تقولوا: "كان هنا " !اقتفيتُ أثر الكلاب الخائفة من الحروب، و لم أخف من الحرب !صار كل شيء دليلهُ؛ لذا لم يضع في الليل .. نعم في الليل حين تهدأ الأصوات الجائعة وتتكوم في مكان لا يراه أحد يصغي لأنين الموتى الذين يسكنونه منذ قرون الموتى الذين تدحرجتْ رؤوسهم إلى أن سقطتْ في النهر هكذا كلما أراد أن يلتقي بنفسه حكّ رأسه بالصخور الناتئة .من قلبه و تلمّس عظام الأبدْ

شغل التعبير في التاريخ الإنساني موقعاً مركزياً مهماً، منذ الإشارات الأولى للتواصل أي قبل أن تنشأ اللغة المحكية، ليصبح الكلام بعدها الأداة الاعتيادية للتعبير اليومي والدائم، لكن شيئاً ما ظلّ عالقاً في داخل هذا الإنسان، لم يستطع مسهُ، أو الوصول إليه إلا بطريقة واحدة ألا وهي الشعر، فرافق هذا الكائن الجديد المجتمعات البشرية كلها، فتارة حافظاً لتاريخها، وتارة محفزاً لها، فتنوعت أغراضه واستخداماته باختلاف الأزمنة والأمكنة، لكن شيئاً واحداً مهّماً كنتُ ألمحهُ يتكرر، وهو أن «العقل الشعري» في كثير من الأحيان كان متبايناً مع الوسط الذي ينشأ فيه، وإذ يحدث هذا التباين يصبح هذا الشعر في كثيرٍ من الأحيان خالداً وصالحاً لمدة أطول، فيكون الشعر حينها أداة تفكير وكشف، تختلف عن أدوات التفكير الكلاسيكية. وفي الشعر العربي هناك نماذج كثيرة كان عقلها الشعري سابقاً لمجتمعاتها رافضاً حمل الماضي، متمسكاً بحاضره الذي يراه ويعيشه، وما سخرية أبي نواس على الواقف على الطلل بغريبة عن هذا، وما محاولات أبي تمام لابتكار صور وتراكيب جديدة إلا شيء من هذا أيضاً، وفي النظر إلى الشعر العربي الحديث نجد أن الحداثة لم تتسلل كبنية عقلية إلا إلى أشكال هذا التعبير، فهي موجودة وحاضرة بشكلها الغربي قبل تطوره، وهذا ما شكل أحد مشكلاتها الكبرى مع المتلقي العربي، فهي إذ تسبق متلقيها تطالبه باللحاق بها ضمن شروطها هي، لا ضمن شروطه الكلاسيكية، ولكن في غمرة هذا السجال ظلت هناك نماذج حاولت أن تمسك العصا من النصف، فلا هي اندفعت لقصيدة النثر بكل ضبابيتها، ولا هي تشبّثتْ بالنص التناظري، لكنها حاولتْ أن تحافظ على قدرتها على السباحة في هذا البحر الكبير. ومن ضمن هذه الأسماء الشاعر السعودي إياد حكمي في مجموعته الشعرية «ظل للقصيدة.. صدى للجسد»، فمنذ العنوان الذي استخدم فيه تقنية شهيرة ألا وهي «التراسل الوظيفي»، يظهر انشغاله الأول بأن للأشياء عادة زوايا أخرى ننظر منها وقد يحرك هذه النظرة الخيال، لكن هذا الهاجس الذي تسلل إلى غالبية نصوص المجموعة اجتمع بهاجس آخر ظل مشكلاً لكثير من الشعراء الكبار وهو، مشكل الموسيقى والمضمون، فالظل ليس للجسد، والصدى ليس للقصيدة. جاءت المجموعة مقسمة إلى ثلاثة أقسام «جثث دافئة» و«صحف بيضاء» و«قيامة الرماد»، اتسمتْ كلها بتلك المسحة السوداء التي اقتربت من الغناء الجنائزي في كثيرٍ من الأحايين، فهو إذ يصر على غنائه الحزين باعتبار الشعر قريناً للموسيقى، يصرُّ أيضاً على التعبير عن الهم الجمعي في أماكن مختلفة من المجموعة، مما حدا ببعض النصوص إلى الانفعالية الواضحة، فهي تشبه كتلة انفجرت وكل ما كان على الشاعر هو رسم الخطوط التي تحد هذا الانفجار في مشهد سوريالي طاول كل نصوص المجموعة تقريباً. في النصوص التي وضعت بعنوان «جثث دافئة» كان القاسم المشترك فيها هو دورانها حول فكرة الحب، الذي لم يكن وروده في النص بتلك الطريقة التقليدية السهلة التي واستهلكها الكثير، فالحب الصعب لا يمكن أن يعبّر عنه بتلك السهولة، فلذا نجد أن النصوص جاءت انعكاساً حقيقياً لتجربة الحب الفردية للشاعر والجماعية للكثيرين من جيله، فالأنا هي أنا جمعية والحبيبة هي كل الحبيبات، وكلما حاول إياد القبض على تفاصيل تجربته الشخصية لتنعكس على تجربته الشعرية وجدنا أنها هي التجربة الجماعية ذاتها التي يمر بها الكثيرون من الذين يشتركون معه في المساحة الجغرافية ذاتها، فهنا يمكن أن نلاحظ استعادة ضمنية لدور الشاعر القديم بالتعبير عن أنا الجماعة، ولكن وفق شروط مغايرة، ومضامين مغايرة أيضاً، لم يكن الحب غائباً عن بقية أجواء المجموعة فهو كلما حضر غاب، وكلما غاب أحسسنا بوجوده. ففي معظم النصوص التي جاءت بعنوان «صحف بيضاء» كان الشاعر يحاول نقل الضمير بوضوح، فتارة يتحدث عن الأصدقاء، وتارة بلسانهم، ومرات بلسانه أو بلسان حبيبته، هذا التنقل والتنويع في استخدام الضمير هو وعي ضمني بحساسية التجربة، هذا الحب كان في كثير من الأحيان المحرك الشعري لإياد لكتابة نص انفعالي كتبه ضمن حادثة ما أو أهداه لصديق هذا الحب الذي لا يجاوز فكرة علاقة الرجل بالمرأة لأن يصبح الحب طريقة فهمٍ للحياة، فهو يكتب عن الشجرة لأنه يحبها، ويكتب عن الليل لأنه يحبه، نقرأ من نصه: «سراب» «يكفي لأكتب/ جمرة قيد الرماد/ أرى بها ورق الفؤاد/ وليلة/ ويدان عاطلتان عن تمسيد شعر حبيبتي/ ومسافةٌ/ بيني وبين الحلم/ أعمقُ من هدوء الموت/ لا أحتاج كيما أنزف الكلمات/ إلا طعنة الكلمات/ ها أنا ذاك/ مقتول وقاتل». يواصل إياد تدفقه الدائم بلغة يظهر فيها الحنين للبلاغة القديمة وسط رغبة حقيقية في التخلص منها، فهو بهذه الحالة يحاول أن يمسك عصاه من النصف، فلا هو الذي يغادر مكانه الحضاري في الكتابة، ولا هو بالذي يتمسك به كاملاً، إنه صراع حقيقي مرّ به الأدب وحده في التجربة العربية. ويبدو أنه سيظل كذلك إلى وقت طويل، يمتد الصراع ويصل أوجه في نصوص الجزء الأخير من المجموعة التي جاءت بعنوان «قيامة الرماد»، فإذا كان المحرك لنصوص المجموعة هو دافع الحب كما قلنا، فالمحرك الرئيس لهذا الجزء هو رغبة الشاعر في الإمساك بموته، «الموت حبا» أو الحب إلى درجة الموت، إنه استدعاء فانتازي لذاكرة عربية مثخنة بنماذج قرنت الحب بالموت، وجنونٌ حقيقي يحيل إلى قرائن الموت في الشعر العربي، فالمتنبي الذي قتله شعره تطور إلى آخر يقتله حبه شعراً.. فالنصوص محتشدة بتعابير كـ «هل ستفصح عن شهوة الموت؟» «لم يبق في صفحة العمر إلا غدٌ واحد» وغيرها. هكذا يضيء لنا إياد الطرائق التي يتسلل فيها اللاوعي إلى التجارب الإبداعية مقترحاً فهماً مغايراً لتجربة جيل شعري مختلف.