top of page

منذ النصف الأول من القرن الماضي، وتحديداً في تلك اللحظة التي التقط فيها السرديون اللاتينيون الخيط من الناقد الألماني «فرانز رو»، التمع نجم «الواقعية السحرية» ليصبح بعدها موجة تكتسح المشهد الثقافي العالمي، لم يغب هذا عن الشعر باعتباره فناً كبقية الفنون التي تأثرت ببعضها البعض، ولكنه كان قليل الحضور في الشعرية العربية مقارنة بمثيلاتها في العالم. يحضرني تاريخ «الواقعية» بمجمل اختلافاتها وأنا أقرأ ديوان «يقيس الأزقة بالذكريات» للشاعر إبراهيم مبارك، فمنذ العنوان يظهر النزوع الواضح في جعل غير الممكن ممكناً في جملة نجح فيها بضم الثبات إلى الحركة، في إشارة واضحة إلى إمكان «توحد الأضداد» كما يرى «إيلاي سيجل»، فاللحظات - غير الثابتة - التي قد تتسرب من بين أصابع الذاكرة هي مقياس لعمر جامد بين الأزقة، ويستخدم إبراهيم مبارك الجملة الفعلية في تأكيد وإصرار على الطبيعة الحركية للحال الشعورية. لا يمكن لقارئ كتاب إبراهيم مبارك أن يغفل عن بواعث النص الشعري لديه واختلافه عن مجايليه، ولاحظ مبارك ذلك وأَّحسّهُ بما لا يدع مجالاً للشك، إذ يقول في نص صغير بعنوان «كتابة»: «قال صديقي/ لم لا تجيء الكتابة من شرفة فارهة/ سؤالك يحزنني يا صديقي/ فدعني وسلها»، فإذا كانت الكتابة تصدر عند البعض عن ترفٍ لا علاقة له بالواقع المعاش لمنتجه، فهي على العكس تماماً عند مبارك، فهي إذ تظهر وكأنها مرآةٌ لحياته، سرعان ما تمتزج بالضد النقيض لها، وهذا ما قد يحيلنا بشكل ما إلى تصور «ريتشاردز» للعقل الشعري فهو يرى أنه «في لحظات، يوفق إلى نظرة نافذةٍ إلى قلب الحقيقة، فيقرأ الطبيعة رمزاً لشيء وراءهَا، أو لشيء داخل الطبيعة لا ينكشف بالشكل العادي».

لكن مبارك لا يقرأ الطبيعة رمزاً، إنه يلمسها ويتوحد بها وينفصل عنها كما يريد هو وكما تريد هي، فالمشيئة التي تحدد ذلك هي موضع جذب بينه وبين الموجودات التي تحيط به. نقرأ من نصه «الأزقة»: «عشرون جرحاً/ وما زلت رهن البيوت القديمة/ تنفض عنها الرحيل/ كعشبٍ تسمر في العتبات/ وما قد دفنت ألعاب طفل/ ستنبت لو بعد جرحٍ/ حدائق فلٍ على شرفات الرياح/ اركض برجلكَ/ واغسل تجاعيد وجهٍ وقاك الظهيرة/ اختبئ في الأزقة/ دخن بأعقاب كل السجائر/ هنا تخرج الروح أثقالها». هكذا يصر الشعر إذاًً على الحياة، وهكذا يعيد ابتكارها من عناصر هي نقيض مجازي بالأصل لها وكأن الفكرة هي في لا وعي مبارك، يصر عليها في غالب صفحات المجموعة، فالتمسك بأعقاب السجائر ما هو إلا رمزٌ للتمسك بالحياة، وما دفن ألعاب الطفل إلا دفن لكل اللحظات المرة في الحياة أيضاً، إلحاح على التنفس ولو بعد عمر من الاختناق، تشبث بفكرة الأمل، هذا ما يمكن أن يعكس تجربة مبارك التي تظهر كما قلت: وكأنها مرآة ولكنها سرعان ما تتخذ شكلاً آخر. في النصف الثاني من الكتاب الذي جاء حاملاً لعنوان «مدفأة تهذي» يصبح السواد الذي يسيطر على مستقبل البشرية واضحاً وجلياً في النصوص التي جاءت متخلية عن الشكل التفعيلي الذي كانت عليه في النصف الأول من الديوان، إذ لبست هذه المرة ثوب قصيدة النثر وتحلت باختزال بارع وثاقب، لم يختبئ مبارك في هذه النصوص خلف اللغة، ولكنه كان في لحظة امتداحه للوضوح مكتنزاً للحال المعقدة التي تصدر عنها التجربة، وهذا الحذر الواعي يذكرنا بمشهد رجل السيرك، الذي يسير على الحواف المعلقة ويصل، على رغم احتمالات السقوط الكثيرة، لا يسقط إبراهيم ولكنه يثير العديد من التساؤلات في مضامين يتقاطع فيها البشر بمستوياتهم كافة، فهو إذ يصوغ علاقة الشاعر بالمرأة العشيقة يستعيد الفكرة الكلاسيكية عن كون الشاعر يحتاج إلى ملهمة ليكتب فيقلبها رأساً على عقبٍ ويقول: «كلما خسر امرأةٍ ربح قصيدة/ ماذا لو خسر حياته بأكملها». وفي مشهد آخر يراوح بين السخرية الفاقعة والدراية العميقة بالفكرة يتفاعل مع مقولة «موت المؤلف» فيقول: «كلما كتب قصيدة في المساء/ خرج في الصباح/ يفتش عن صاحبها». تظل مجموعة إبراهيم مبارك الأولى من أكثر المجاميع الشعرية الصادرة حديثاً جرأة والتصاقاً حميماً وشقياً بكل ما حولها، هكذا يمكن أن يكون للشعر نافذة يتنفس ويطل منها على العالم، لم ألتفت للنصوص التي احتفت بالمكان، وتلك التي حاورت بعض الأفكار الكبرى في حياتنا، آملاً بفعل ذلك متى ما أتيحت لي الفرصة


أوه.. لا شيء، لا شيء لي

لا يداي الغائبتان، لا نبرة صوتي

و لا ذراعاي البعيدتان

لقد حصلت على كل شيء

لا شيء، لا شيء لي

مثل انعكاسات بحيرة كئيبة.. أنا

أو صدى لأصوات في قاع الزرقة

عندما أمطرتْ بشكل جيدٍ

حصلت على كل شيء

الماء والزجاج الذي يستحيل إلى أي شيء

وسط الدخان، وسط الدوامة

داخل مبنى، داخل سمكة، داخل حجرٍ، داخل وردة مختلفةٌ عني أنا، مختلفة جداً مثل بعض الناس عند وجودهم بين بعض الناس

أنا كل الأماكن التي أحببتها في حياتي

أنا امرأةٌ كرهتْ الكثير

وعطرٌ جُرِحَ في ليلة واحدة

مع مراسيم مصيرٍ لم يتأكد

أنا الظلال التي دخلتْ سيارة

تتألق في الميناء

السر المخبأ في العينين..أنا

وأنا سكين الغيرة

والأوجاع الحمراء ذات الجروح

أنا الصوت الذي سمعته وراء العماء

الضوء، والهواء فوق شجر السرو

أنا كل الكلمات التي عشقتها على الشفاه

وفي الكتب التي أعجبتني

أنا السلوقية التي هربت في المسافة

الفرع الانفرادي بين الفروع

أنا السعادة في يوم واحد

أنا عوز الأقدام العارية

مع الأطفال الذين يذهبون بصمتٍ بعيداً

أنا التي لم يخبروها، وكنتُ أعرف

أوه.. كنت أريد أن يكون لي كل شيء

فأنا فقدتُ كل شيء

ولكن كل الأشياء صعبة المنال كالنهر، والرياح

كزهور الصيف الذهبية آن تموت في يديك

أنا كل شيء، ولكن لا شيء، لا شيء لي

لا الألم، لا الفرحة، لا الرعب

ولا حتى كلمات أغنيتي



جمعت الصحافية الأميركية روز روس في كتاب، يمكن وصفه بالمؤلم، عدداً من الرسائل الأخيرة، لأولئك الذين يواجهون الموت، سواء بسبب المرض أو لغيره من الأسباب، وبهذه الرسائل تقدم روز نظرة مقنعة إلى تعقيد العواطف التي نواجهها مع اقتراب نهاية حياتنا، كما أنها توفر لمحة عن القوة الجامحة للروح البشرية. هنا مقتطفات من بعض هذه الرسائل: لي ثورنتون، 22 عاماً من بلاكبول، أصيب إصابة قاتلة في البصرة، العراق في 7 أيلول (سبتمبر) 2006 كتب «لي» هذا الخطاب لخطيبته هيلين أوبري (21 عاماً)، في حالة أنه لم يعد: «أهلاً حبيبتي، لا أعلم لماذا أكتب هذه الرسالة، آمل حقا أنك لن تحصلي عليها، لأنه إن حدث ذلك فهذا يعني أنني ميِّت، وهذا يعني أيضاً أنه لن يتاح لي الوقت لأظهر لك. كم أنا أحبك. في كل ليلة قضيتها بعيدا عنك، كنت أضع صورتك على رأس سريري، وأقبل أصابعي التي كانت تلمس وجهك، لقد وضعت الصورة على سريري، ويمكنك أن تكوني بذلك قريبة مني، حسناً والآن جاء دوري للوقوف عليك وأنت نائمة، لأحرسك في أحلامك، وسوف أنحني دائماً عليك لأتأكد من أنك بخير». في آذار (مارس) 1912 كتب المستكشف الكابتن روبرت سكوت من القطب الجنوبي رسالته الأخير لزوجته، كاثلين وابنهما البالغ من العمر ثلاث سنوات، بيتر، كما أنه شق طريقه للعودة ولكن من دون جدوى، إذ كانت درجة الحرارة دون الصفر، وعانى من شدة الصقيع وسوء التغذية. وتوفي يوم 29 مارس من العام نفسه: « إلى أرملتي.. يا أعز عزيزة، ليس من السهل أبداً أن أكتب بسبب البرد، الدرجة هنا 70 تحت الصفر ولا مأوى لنا سوى خيمة، نحن في زاوية ضيقة جداً، وليس هناك لحظة أستطيع أن أكتب لك فيها هذه الرسالة إن حدث طارئ ما لي سوى في لحظة الغداء هذه، إن حدث لي شيء أود أن تعرفي إلى أي درجة كنت أحبك. عندما يأتي الرجل المناسب لمساعدتك في الحياة، يجب عليك أن تفعلي ذلك وتكوني سعيدة مرة أخرى. اجعلي الصبي مهتماً بالتاريخ الطبيعي إن استطعتِ. هذا أفضل له من اللعب الدائم. وحاولي أن تجعليه يؤمن بالله فهذا أمر مريح، إن حدث لي شيء فسيعثروا علي وفي صدري صورتك وصورة الصبي.. أحبك». الكاتبة ميليسا ناثان أصيبت بسرطان الثدي في عمر الـ33 وتوفيت في عمر الـ37 كتبت رسالتها الأخيرة لعائلتها في الصفحات الأولى من كتابها الأخير: «أنا في موقف غير عادي، هذا الكتاب في جميع الاحتمالات سوف ينشر بعد رحيلي ومن الأفضل أن أنخرط فيه بشكل أفضل بدلاً من كتابة مجموعة من الاعترافات..

أولاً إلى والدي الرائع: لقد منحتني حياة رائعة من الحب والعطف والصداقة، لقد كنت محظوظة بما يكفي لرؤيتك وجها لوجه، من فضلك لا تشعر بأن حياتي كانت صعبة لقد كانت 37 سنة رائعة. عزيزي أندرو: أنا أحترمك بقدر ما أحبك، وهذا قد يبين لك شيئاً ما، لقد كنت محظوظة بالزواج منك 12 عاماً وهذا ليس بالأمر سهل. أحبك ابني سام : سأخبرك الكثير عندما أذهب إلى السماء وسأقبلك وأنا هناك كما كنت أفعل دائماً، لقد تركت بصمة على قلبي إلى الأبد». كان ميك سكوت عندما بدأت الحرب العالمية الثانية. قد انضم إلى سلاح الجو الملكي البريطاني وقام بأول رحلة تشغيلية له، وعمره 26 عاماً، في 24 أيار (مايو) 1941. كانت رحلته الأخيرة؛ إذ ذهب في عداد المفقودين في بحر الشمال. «أبي وأمي ربما كنت أعرف أنكما لن ترياني بعد الآن، وقد تكون المعرفة أفضل من عدم اليقين لأشهر.. هناك شيئان وددتُ قولهما، ولكنني كنت خجولاً طوال الفترة الماضية: أولاً: لقد كشفت هذه الحرب الرهيبة طبقات لم تكن متصورة من المودة بيننا كأسرة، وكشفت عن تماسكنا في لحظات الخوف. ثانياً: أود أن أشكركم على ما قمتم به لي لقد سببت لكما الكثير من المتاعب أنا أحبكما وإن لم أستطع أن أعبر لكم عن ذلك. لقد كرهت هذه الحرب على رغم أنها أظهرت لي عوالم جديدة حيث يكون الشخص خالياً من القيود والاتفاقات الدنيوية، حيث يمكنه أن يلعب الغميضة مع الغيوم أو يشاهد العالم في الأسفل بصمت غريب، هذا الغموض الذي أشعر به لا يستحق أي شيء، أستطيع أن أقول لكما لا شفقة لهذه التضحية التي أقدمت عليها لذا لا تقلقا عليَّ.. أتمنى لكما حياة سعيدة


Follow Me
  • YouTube Social  Icon
  • Facebook Social Icon
  • Twitter Social Icon
  • Grey Google+ Icon
لقد نصبتُ فخًا للحياة .. عندما قررت أن أكتب 
نافذة أخرى 
آخرإصدارات الكاتب 
غرف تنتمي لأصحابها غلاف.jpg
Full Cover.png
  • Facebook Social Icon
  • Black Twitter Icon
  • Grey Google+ Icon
bottom of page