top of page

يقيس الأزقة بالذكريات.. الشعر مرآة لحياة الشاعر

  • عبدالله عبيد
  • 23 سبتمبر 2017
  • 3 دقيقة قراءة

منذ النصف الأول من القرن الماضي، وتحديداً في تلك اللحظة التي التقط فيها السرديون اللاتينيون الخيط من الناقد الألماني «فرانز رو»، التمع نجم «الواقعية السحرية» ليصبح بعدها موجة تكتسح المشهد الثقافي العالمي، لم يغب هذا عن الشعر باعتباره فناً كبقية الفنون التي تأثرت ببعضها البعض، ولكنه كان قليل الحضور في الشعرية العربية مقارنة بمثيلاتها في العالم. يحضرني تاريخ «الواقعية» بمجمل اختلافاتها وأنا أقرأ ديوان «يقيس الأزقة بالذكريات» للشاعر إبراهيم مبارك، فمنذ العنوان يظهر النزوع الواضح في جعل غير الممكن ممكناً في جملة نجح فيها بضم الثبات إلى الحركة، في إشارة واضحة إلى إمكان «توحد الأضداد» كما يرى «إيلاي سيجل»، فاللحظات - غير الثابتة - التي قد تتسرب من بين أصابع الذاكرة هي مقياس لعمر جامد بين الأزقة، ويستخدم إبراهيم مبارك الجملة الفعلية في تأكيد وإصرار على الطبيعة الحركية للحال الشعورية. لا يمكن لقارئ كتاب إبراهيم مبارك أن يغفل عن بواعث النص الشعري لديه واختلافه عن مجايليه، ولاحظ مبارك ذلك وأَّحسّهُ بما لا يدع مجالاً للشك، إذ يقول في نص صغير بعنوان «كتابة»: «قال صديقي/ لم لا تجيء الكتابة من شرفة فارهة/ سؤالك يحزنني يا صديقي/ فدعني وسلها»، فإذا كانت الكتابة تصدر عند البعض عن ترفٍ لا علاقة له بالواقع المعاش لمنتجه، فهي على العكس تماماً عند مبارك، فهي إذ تظهر وكأنها مرآةٌ لحياته، سرعان ما تمتزج بالضد النقيض لها، وهذا ما قد يحيلنا بشكل ما إلى تصور «ريتشاردز» للعقل الشعري فهو يرى أنه «في لحظات، يوفق إلى نظرة نافذةٍ إلى قلب الحقيقة، فيقرأ الطبيعة رمزاً لشيء وراءهَا، أو لشيء داخل الطبيعة لا ينكشف بالشكل العادي».

لكن مبارك لا يقرأ الطبيعة رمزاً، إنه يلمسها ويتوحد بها وينفصل عنها كما يريد هو وكما تريد هي، فالمشيئة التي تحدد ذلك هي موضع جذب بينه وبين الموجودات التي تحيط به. نقرأ من نصه «الأزقة»: «عشرون جرحاً/ وما زلت رهن البيوت القديمة/ تنفض عنها الرحيل/ كعشبٍ تسمر في العتبات/ وما قد دفنت ألعاب طفل/ ستنبت لو بعد جرحٍ/ حدائق فلٍ على شرفات الرياح/ اركض برجلكَ/ واغسل تجاعيد وجهٍ وقاك الظهيرة/ اختبئ في الأزقة/ دخن بأعقاب كل السجائر/ هنا تخرج الروح أثقالها». هكذا يصر الشعر إذاًً على الحياة، وهكذا يعيد ابتكارها من عناصر هي نقيض مجازي بالأصل لها وكأن الفكرة هي في لا وعي مبارك، يصر عليها في غالب صفحات المجموعة، فالتمسك بأعقاب السجائر ما هو إلا رمزٌ للتمسك بالحياة، وما دفن ألعاب الطفل إلا دفن لكل اللحظات المرة في الحياة أيضاً، إلحاح على التنفس ولو بعد عمر من الاختناق، تشبث بفكرة الأمل، هذا ما يمكن أن يعكس تجربة مبارك التي تظهر كما قلت: وكأنها مرآة ولكنها سرعان ما تتخذ شكلاً آخر. في النصف الثاني من الكتاب الذي جاء حاملاً لعنوان «مدفأة تهذي» يصبح السواد الذي يسيطر على مستقبل البشرية واضحاً وجلياً في النصوص التي جاءت متخلية عن الشكل التفعيلي الذي كانت عليه في النصف الأول من الديوان، إذ لبست هذه المرة ثوب قصيدة النثر وتحلت باختزال بارع وثاقب، لم يختبئ مبارك في هذه النصوص خلف اللغة، ولكنه كان في لحظة امتداحه للوضوح مكتنزاً للحال المعقدة التي تصدر عنها التجربة، وهذا الحذر الواعي يذكرنا بمشهد رجل السيرك، الذي يسير على الحواف المعلقة ويصل، على رغم احتمالات السقوط الكثيرة، لا يسقط إبراهيم ولكنه يثير العديد من التساؤلات في مضامين يتقاطع فيها البشر بمستوياتهم كافة، فهو إذ يصوغ علاقة الشاعر بالمرأة العشيقة يستعيد الفكرة الكلاسيكية عن كون الشاعر يحتاج إلى ملهمة ليكتب فيقلبها رأساً على عقبٍ ويقول: «كلما خسر امرأةٍ ربح قصيدة/ ماذا لو خسر حياته بأكملها». وفي مشهد آخر يراوح بين السخرية الفاقعة والدراية العميقة بالفكرة يتفاعل مع مقولة «موت المؤلف» فيقول: «كلما كتب قصيدة في المساء/ خرج في الصباح/ يفتش عن صاحبها». تظل مجموعة إبراهيم مبارك الأولى من أكثر المجاميع الشعرية الصادرة حديثاً جرأة والتصاقاً حميماً وشقياً بكل ما حولها، هكذا يمكن أن يكون للشعر نافذة يتنفس ويطل منها على العالم، لم ألتفت للنصوص التي احتفت بالمكان، وتلك التي حاورت بعض الأفكار الكبرى في حياتنا، آملاً بفعل ذلك متى ما أتيحت لي الفرصة


 
 
 

تعليقات


Featured Review
سوف تأتي المنشورات قريبًا
بمجرد نشر المنشورات، ستراها هنا.
Tag Cloud
  • Facebook Social Icon
  • Black Twitter Icon
  • Grey Google+ Icon
bottom of page