جوعنا الأبدي للقصص
- بول أوستر- ترجمة عبدالله عبيد
- 22 سبتمبر 2017
- 3 دقيقة قراءة

إنني لا أعلم لماذا أفعل ما أفعله، وإن علمتُ ذلك.. ربما لن تكون لي حاجة للقيام بما أقوم به. كل ما يمكنني قوله، وأنا أقول هذا بمنتهى اليقين: أنني شعرت بهذه الحاجة منذ أوائل مراهقتي. أعني الكتابة على وجه الخصوص ، الكتابة كوسيلة لسرد القصص.. القصص الخيالية، تلك التي لن تتخذ لنفسها مكانا فيما نطلق عليه العالم الحقيقي. من المؤكد أنها طريقة غريبة لقضاء حياتك أن تجلس وحيدًا في غرفة وبيدك القلم، ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، تناضل من أجل أن تضع الكلمات على ورقة بيضاء، ولتلد ما لا وجود له إلا في رأسك. لماذا يفكر شخص ما على وجه الأرض أن يقوم بشيء كهذا ؟ إن الإجابة الوحيدة التي أصبحتُ قادرًا على الخروج بها هي أنه لم يعد لديه خيار آخر . هذه الحاجة للفعل، للخلق، للابتكار، هي اندفاع أساسي للإنسان، ولكن إلى أي حد؟ ما هدف الفن ؟ ولا سيما الكتابة الخيالية ، ما الذي يقوم به الخيال في هذا العالم الواقعي ؟ إنني لا أعتقد أن هناك معنى عملي لهذا يمكن أن نفكر فيه، فلم يطعم الكتاب طفلا جائعًا، ولم يمنع رصاصة من أن تخترق جسد القتيل، ولم يمنع الكتاب أبدا.. قنبلة من أن تسقط على مدنيين أبرياء في خضم الحرب . يحلو للبعض أن يعتقد أن تقديرنا للفن يمكن أن يجعلنا في الواقع أفضل الناس، أكثرهم عدلاً، أكثرهم أخلاقيةً، أكثرهم حساسيةً، أكثرهم تفهمًا. ربما كان ذلك صحيحًا في بعض الحالات النادرة و المعزولة. ولكن بالمقابل دعونا لا ننسى أن "هتلر" بدأ حياته كفنان، الطغاة والمستبدون قُراء روايات، القتلة في السجن قُراء روايات. وهذا يعني أننا لن نجني ذات المتع التي يستمدها الآخرون من الكتب . وبعبارة أخرى ، الفن لا طائل منه، على الأقل مقارنة بتلك الأعمال التي يقوم به السباك أو الطبيب أو مهندس السكك الحديدية. ولكن هل اللا جدوى شيء سيء ؟ هل عدم وجود هدف عملي للكتب واللوحات يعني أنها مجرد مضيعة للوقت لدينا؟ كثير من الناس يعتقدون ذلك. ولكن أود أن أقول أن هذه اللا جدوى من الفن هي من تمنحه قيمته وهي ما تجعله يميزنا كبشر عن باقي كائنات هذا الكوكب، وهو بالأساس ما يعيد تعريفنا كبشر. إن المتعة الخالصة والجمال في أن تفعل شيئا ما، وتبذل جهدًا كبيرا فيه كتلك الساعات الطويلة من الممارسة والانضباط اللازم ليصبح عازف البيانو بارعًا، أو تصبح الراقصة متقنة، كل هذه المعاناة والعمل الشاق، كل التضحيات من أجل تحقيق ما هو رائع وكامل ..لا طائل منها. إننا ننتخب الخيال مع وجود أنواع أخرى من الفنون، أقلها تلك التي تتكئ على اللغة.. واللغة هي أداة نتقاسمها مع الآخرين، وهي المشترك الأبرز بيننا جميعا، فمنذ لحظة تعلمنا للكلام، نبدأ بصقل جوعنا للقصص. البعض منا يتذكر كيف كان بحماس ينتظر تلك اللحظة التي يجلس فيه أحد من أبويه بجانبه في غرفة شبه مظلمة، ويقرأ له من كتاب الحكايات الخرافية . يلمح الآباء ذلك الانتباه والاستغراق الكلي في عيون أطفالهم عندما يقرؤون لهم القصص. لماذا كل هذه الرغبة الشديدة للاستماع؟ قد تكون بعضها حكايات قاسية وعنيفة، وتضم قطع رؤوس وأكل لحوم بشر، وتحولات معقدة للشر نعتقد نحن اليوم أنها قد تكون مخيفة جدا لطفل صغير، ولكن هذه القصص تتيح للطفل تجربة لقاء مخاوفه الخاصة، وعذاباته الداخلية في بيئة آمنة ومحمية تمامًا. هذا هو سحر القصص.. إنها تجرنا إلى أعماق الجحيم لكنها في النهاية غير مؤذية . قد نكبر في السن، لكننا لا نتغير، إننا نصبح أكثر تعقيدًا.. مواصلين تشبثنا بذواتنا القديمة تلك التي لا تمل من الاستماع إلى القصة ثم القصة التي تليها لسنوات عديدة. هناك مقالات أصبحت مؤخرًا تتحسر على حقيقة أننا أصبحنا في العالم الغربي أقل الناس قراءة للكتب، وأننا دخلنا في ما أسماه البعض "عصر ما بعد القراءة والكتابة".. قد يكون ذلك صحيحًا ولكن في نفس الوقت ، هذا لا يقلل من أهمية الشغف العالمي للقصص. ليست الروايات المصدر الوحيد للقصص.. الأفلام والتلفزيون وحتى الكتب المصورة تعج بكميات هائلة من السرديات الخيالية التي يستمر الجمهور بابتلاعها بشيء من الانفعال، ولذلك لأن الناس بحاجة إلى القصص ، هم بحاجة إليها تقريبا بشكل يائس.. تماما كما يحتاجون إلى الطعام ولكننا يمكن أن نقدم هذه القصص على الصفحات المطبوعة أو على شاشة التلفزيون وتصور الحياة من دونها سيكون أمرًا مستحيلًا. ومع ذلك.. عندما يتعلق الأمر بحالة الرواية ،مستقبلها.. أشعر بتفاؤل إلى حد ما، لا أعول على الأرقام عندما نتحدث عن الكتب، ليكن هناك قارئ واحد ينزلق للراوية.. في كل مرة هناك قارئ واحد فقط وهذا ما يفسر التأثير الخاص للرواية وهذا السبب في رأيي يجعلني أقول بأنها لن تموت كشكل من الأشكال، كل رواية هي تعاون متكافئ بين الكاتب والقارئ وهذا هو المكان الوحيد الذي يتيح اجتماع غريبين على شروط العلاقة الحميمة المطلقة . لقد قضيت حياتي بإقامة حوارات مع أناس لم أرهم قط، مع أناس لن أعرفهم وآمل أن أستمر في ذلك حتى اليوم الذي أتوقف فيه عن التنفس.. إنها المهنة الوحيدة التي أردتها
Comentarios